سد النهضة ولعنة الفراعنة… بقلم: محمد مصطفى جامع
إعلان وزير الري المصري محمد عبدالعاطي قبل يومين عن عدم توصل الدول الثلاث “إثيوبيا ، السودان، مصر” إلى اتفاق حول القضايا العالقة بشأن سد النهضة أعاد المشروع الكبير إلى الواجهة بعد أن تسببت تصريحات لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أواخر أغسطس/ آب الماضي في صدمة كبيرة بالداخل الإثيوبي عندما تحدث عن الصعوبات الفنية والإدارية التي تواجه مشروع سد النهضة. وذلك لأن الجميع كانوا يعتقدون أن العمل في السد يسير بصورة طيبة خصوصًا أن وزارة الكهرباء الإثيوبية كانت قد أعلنت في مايو/ أيار الماضي أن المشروع قطع 66% من مراحل تنفيذه.
ومع أن آبي أحمد اختار أن يتحدث إلى الشعب الإثيوبي بكل شفافية ومصداقية، مفضلاً أن يبين لهم الصعوبات التي تواجه المشروع وكيفية التغلب عليها، فإن كثير من المواطنين الإثيوبيين لم يعجبهم التصريح فعبَّروا في وسائل التواصل الاجتماعي عن استيائهم من حديث رئيس الوزراء بل إن البعض ربط تصريحات آبي أحمد بزيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد إلى أديس أبابا وإعلانه عن استثمار الإمارات 3 مليار دولار في إثيوبيا من بينها مليار وديعة مباشرة في البنك المركزي لتخفيف مشكلة نقص النقد الأجنبي الذي تعاني منه أديس أبابا.
أما الإعلام المصري الذي يفترض أن يكون إعلاماً رصيناً نسبةً لتاريخه العريق فقد أخذ ينشر تحليلات أقل ما توصف به بأنها ساذجة مثل القول أن “لعنة الفراعنة” حلّت بسد النهضة و”اللي يجي جنب مصر ما يكسبش”. إذ ربطت وسائل الإعلام المصرية بين تصريحات آبي أحمد وبين مقتل مدير مشروع سد النهضة السابق سيميجنيو بيكلي في واقعة غامضة قالت الشرطة فيما بعد إنها حادث انتحار.
كما ربط إعلام القاهرة بين حديث آبي أحمد والإضراب الذي نفذه عمال سد النهضة أواخر الشهر الماضي لعدة أيام قبل أن تقوم إدارة السد بالتفاوض معهم حول تحسين أوضاعهم الوظيفية كما صّرح بذلك المدير الحالي للمشروع إفريم ولد كيدان.
ولا ننسى كذلك أن الصحف المصرية وصفت رجل الأعمال المعتقل في السعودية محمد حسين العمودي ب”أكبر ممول لسد النهضة” في حين أنه قدّم تبرعاً قدره 88 مليون دولار لصالح المشروع وربما كان يمكن أن يقدم مبلغاً مماثلاً يساهم في إكمال السد لكنه حتماً ليس الممول الرئيس للسد كما يقول الإعلام المصري.
إذا عدنا إلى حادثة مقتل مدير السد السابق سيمجنيو بيكلي نجد أن ما ذكره مفوض شرطة أديس أبابا زينو جمال بأن بيكلي انتحر لم يكن مقنعاً لكثير من المواطنين الإثيوبيين الذين شككوا في صحة الرواية الرسمية للشرطة خاصة وأن تقرير لشبكة “سي إن إن” الأمريكية ذكر أن الرجل كان في طريقه لعقد مؤتمر صحفي يرد فيه على الحديث المثار حول تأخر إنجاز السد وما يتردد عن وجود فساد في الطريقة التي يدار بها العمل في المشروع العملاق.
كما لا يمكن تجاهل حالة الحزن العميق والغضب الذي تفجّر في الشارع الإثيوبي لحظة الإعلان عن مقتل مدير سد النهضة في ميدان ميسكل الواقع في قلب العاصمة الإثيوبية وتقع بالقرب منه مباني وزارة الخارجية وجهاز الأمن. كما أن آبي أحمد نفسه أشاد بالرجل وشهد بأنه خدم الوطن بكل إخلاص وتفانٍ، ونُذكِّر بأن شهادة رئيس الوزراء عن سيمجنيو بيكي تتطابق مع شهادة معظم المواطنين الإثيوبيين عن الراحل الكبير.
فرضية تورط الحكومة الإثيوبية نفسها في مقتل الرجل تبدو مستبعدة تماماً لأنه لا مصلحة للدولة في قتله، فقد اتضح جلياً بعد جولة المفاوضات الأخيرة أن إثيوبيا لم تقدم أية تنازلات لمصر في مطالبها بإبطاء فترة ملء بحيرة السد إلى 7 سنوات بدلاً عن ال3 سنوات التي تتمسك بها أديس أبابا فلو كانت الأخيرة قدمت تنازلاً أو أوقفت العمل في السد لكانت فرضية قتله منطقية باعتباره يعارض ذلك.
ولكن هناك احتمال آخر يردده مراقبون إثيوبيون بأن السلطات الأمنية ربما رأت أن الكشف عن قتلة المدير السابق لسد النهضة قد يتسبب في فتنة إثنية بين القوميات الإثيوبية المختلفة ففضلت إغلاق القضية بسيناريو الانتحار مع الإبقاء على الملف مفتوحاً للبحث عن الأسباب التفصيلية ودوافع انتحار بيكيلي.
بطبيعة الحال تواجه إثيوبيا مشكلات جمّة يتمثل أبرزها في كيفية توحيد الجبهة الداخلية للبلاد ترامناً مع الخطوات الإصلاحية الشجاعة التي تتخذها حكومة آبي أحمد والمواءمة الصعبة بين الإصلاح وحفظ الأمن والاستقرار في بلد يزيد عدد مواطنيه عن 107 مليون نسمة ينحدرون من 300 قومية مختلفة.
كما تشهد هذه الفترة انعقاد المؤتمرات العامة للأحزاب المكونة لائتلاف “الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية” الحاكم الذي يعرف اختصاراً بEPRDF وتواجهه في الوقت الراهن معضلة الحفاظ على التحالف بوضعه الحالي في ظل التحولات المذهلة التي تشهدها البلاد بالتزامن مع وصول قادة أحزاب المعارضة التي كان بعضها مصنفة إرهابية إلى البلاد استجابةً لنداء الإصلاح والاستعداد للانتخابات المقبلة التي ينتظر أن تكون ساخنة جداً بعد أن وعد آبي أحمد بأنها ستكون ديمقراطية.
ولكن الذين روجوا إلى أن الحكومة الإثيوبية تخلّت عن عن سد النهضة أو أوقفت العمل فيه لا يدركون كيفية اتخاذ القرار في إثيوبيا فقرار خطير مثل هذا يتطلب موافقة أعضاء الائتلاف الحاكم بأحزابه الأربع، وربما يخضع الأمر لاستفتاء شعبي لأن المشروع مشروع قومي تم تمويله ذاتياً بواسطة الشعب الإثيوبي بعد أن نجحت مصر في 2014 باستصدار قرار دولي قضى بوقف التمويل العالمي لسد النهضة باعتبار أن السد محل خلاف ويؤثر على حصتها المائية.
حتماً تواجه المشروع الإثيوبي صعوبات بعد أن أعفى رئيس الوزراء آبي أحمد شركة ميتيك Metec التابعة لوزارة الدفاع من تنفيذ الأعمال الكهروميكانية بعد أن تأخرت في إكمالها عندما قال “لقد سلّمنا مشروعاً مائياً معقداً إلى أُناس لم يروا أي سد في حياتهم”. وأسند العمل إلى شركة أخرى “لم يكشف عنها”، كما تتمثل المعضلة الثانية في مطالبة شركة ساليني الإيطالية وهي المقاول الرئيس للمشروع، حكومة إثيوبيا بدفع تعويض مالي قدره 338 مليون دولار بسبب تأخر الأعمال الكهروميكانيكية المشار إليها أعلاه.
والمبلغ المذكور ليس كبيراً ولكنه قد يشكل تحدياً إضافياً لإثيوبيا التي تعاني من نقص في احتياطات النقد الأجنبي مما يتطلب البحث عن تمويل إضافي أو حث المواطنين الإثيوبيين على المزيد من التبرع والاستثمار في سندات كهرباء السد ونلفت هنا إلى أن مكتب دعم سد النهضة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ظلّ مفتوحاً لتلقي التبرعات والمساهمات كما ينظم المكتب فعاليات متنوعة لصالح تمويل السد إلى جانب حملات الاستثمار في كهرباء السد المتواصلة بالسفارات الإثيوبية بالخارج.
أثبت الاجتماع الأخير لوزراء الري والمياه في الدول الثلاث أن الموقف الإثيوبي من السد لم يتغير ولذلك على مصر البحث عن حلول أخرى للتفاوض مع الطرف الإثيوبي الذي يتضامن معه السودان نظراً للفوائد التي ينتظر أن تحصل عليها الخرطوم بعد انتهاء السد وهي الحصول على 800 ميجا واط من الكهرباء بسعر التكلفة إضافة إلى تمكين السودان من استخدام حصته من مياه النيل بصورة مثلى وغير ذلك. أما حديث الإعلام المصري عن تعثّر العمل في سد النهضة، وتصويره كما لو كان “لعنةً أصابت المشروع” و”اللي يجي جنب مصر ما يكسبش”، ليس سوى هوس بالأوهام واستخفاف بعقول الناس.
ويقيناً تعمل حكومة آبي أحمد على إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه السد الذي قطع حتى الآن حوالي 70% بحسب تقرير لإذاعة فانا الإثيوبية “شبه رسمية”، فالمشروع الحلم يُتوقع أن ينتج من الكهرباء ما يفوق ثلاثة أضعاف إنتاجية السد العالي في مصر، الأمر الذي يجعل إثيوبيا أكبر مصدر للطاقة في إفريقيا.
كما يَتوقع البنك الدولي أن تحصل إثيوبيا على مليار دولار سنوياً من تصدير الكهرباء بحلول عام 2023 إذا انتهت من مشروع سد النهضة والسدود الأخرى في موعدها. هذا إلى جانب المشروعات الزراعية الضخمة والاستثمارات المصاحبة التي ينتظر أن يتم تنفيذها حول منطقة السد الواقع بالقرب من الحدود السودانية مما يساهم في تعزيز مكانة إثيوبيا إقليمياً ودولياً.
*صحفي متخصص في الشأن الأفريقي