“حنجرة العندليب سياحةٌ في ندى الريف” بقلم: الاستاذ بشار ساجت
ثمةَ عواملُ كثيرةٌ تساهمُ في بناءِ النصِّ الأدبيّ من أهمها بيئةُ الجغرافيا والمجتمع؛ فللجغرافيا دورٌ كبيرٌ في بناء النصّ وتوجيهِ جمالياتِه؛ إذ إنَّ الكاتب يتأثّرُ بالمكان وبالطبيعةِ التي تحيطُ به كما يتأثرُ بالبيئةِ الاجتماعيةِ وطبائعِ الناس.
حنجرةُ العندليب مجموعة قصصية للكاتب الأديب محسن ناصر الكناني تنتمي للأدب الواقعي؛ فهي أشبهُ ما تكونُ صورٌ فوتوغرافيه اقتنصَها الكنانيّ بحذقٍ كبيرٍ، ليشخصَ بفطنته بعضَ المشاكلِ المجتمعية. جاءتْ لغةُ المجموعة سلسةً مفهومةً، مازجَ فيها الكاتبُ بينَ مفرداتِ القريةِ وفصاحةِ اللغةِ العربية.
حنجرةُ العندليب سياحةٌ في ندى الريف، واستجمامٌ في ظلال النماء, رحلةٌ على بساطٍ من الخوصِ تحملُه العصافيرُ والبلابلُ يقودها عندليبٌ يشدو بألحانٍ تقاطعها أصواتُ السواقي وترنحُ الأوراق. وحينَ تنتهي من قراءةِ حنجرةِ العندليب، تحاصرُك رائحةُ الورودِ والطين, ثمَّ تنفضُ عن نفسك بقايا ترابِ الطريقِ غيرِ المعبّد, حيثُ الجمالِ والبساطة، هناك في مشتبكِ السعفِ والأغصانِ, وتعانقِ العاقولِ والصريم. وعندَ الحوشِ والحائطِ الطينيّ المبلّلِ، صوبَ حبلِ الغسيلِ الذي يغفو بينَ السدرةِ والسقيفة, خبزٌ وتمرٌ وزقزقةُ العصافيرِ بجانبِ الكوخِ أقصى السلف, وثغاءُ الأغنامِ وصهيلُ الخيولِ والفتياتُ حاملاتُ الجرارَ إلى الغدير.
هكذا جاءتْ حنجرةُ العندليب، مزيجاً من جمالياتِ الطبيعةِ وعذوبةِ اللغة. وكأنَّ كاتُبها قد تبرعمَ وأزهرَ, ثمَّ نما معشوشباً ريّاناً. قد أنجبتْه الطبيعةُ في أحضانِ الريفِ؛ فلا يُعقلُ أنْ تصاغَ صوراً بهذا الإتقانِ من أناملَ لم تألفْ الطين ولم يُيمِمْها الترابُ, إلّا أنَّ للغرابةِ دهشتَها، وللدهشةِ وقعَها، حينَ يعلمُ القارئ أنَّ الكاتب قد نشأَ في المدينةِ وصخبِها بعيداً عن تلكَ الطبيعةِ التي عشقناها من خلالِ اكتناهِ نصوصِه, غيرُ أنَّ ما يهوّنُ الخطبَ ويستألفُ الغرابةَ علمُنا أنَّ الكنانيّ كانَ معلماً في مدارسِ الريف الجميل, عملَ هناك، عشقَ عملَه، فعشقَ كلَّ ما يتعلقُ به.
على عتبةِ المجموعةِ، يقفُ العندليبُ عبد الكاظم الحياويّ، يشدو ألحان الحزن قبالة الأوجاعِ الملتهبةِ، يبوحُ لنا الكاتبُ بسرّه في بداية الرحلة، ويعلنُ للقارئ أنَّ في أرضِ الحزنِ و(النواعي) أناسٌ يقهرون الحزنَ بالموّالِ والأبوذيةِ والعتابةِ. حتّى أنَّ جنازتهم في رحلتها الأخيرة صوبَ النجف، موطنِ القلوب، ومؤتلفِ الأرواح، صوّرها لنا الكنانيّ بكلِّ واقعيةٍ ودقةٍ، نحيبٌ وأنينُ ودموعٌ ساخنةٌ، بعدَها ينطفئُ اللهبُ وتهدأُ الحشرجة.
في مدينةِ الحيّ مقهى وحصيرٌ ملوّن وصوتُ عبد الكاظم يمشُّ شغافَ قلوبِ الحياويّين، فيذهلهم عن أمِّ كلثوم, وينسيهم نغمَ العندليب. لنجتزْ العتبةَ, ونحلّقْ على بساط الخوص بمعيةِ البلابل، ونجعل محطتنا قصة “قيلولة”.
في قيلولة يقدّمُ لنا الكنانيّ لوحةً أخرى صاغها بعنايةٍ ودراية، فهو يصفُ المرأةَ بعينٍ خاليةٍ من البراءة، ليومئَ في عميقِ معناه إلى أنَّ المرأةَ والطبيعةَ شيءٌ واحدٌ، يتعطّلُ قانونُ الجمالِ وتخرسُ أبجدياتُه بدونهما, ثمَّ يدلف يقدّمُ إحدى المشاكلِ الاجتماعية المشخصّة، ليبينَ أنَّ المجتمعَ جوهرٌ سيّالٌ متحركٌ لا يفتأُ يحتاجُ إلى رقيبٍ ناصحٍ ومعالجٍ حذقٍ.
في قيلولة صاغَ الكاتب حواراً بينه وبينَ فتاةٍ جميلةٍ تسألُه عن زوجته, ليخبرَها أنَّها خارجَ المنزل. بلا تردّد تسألُه الفتاة “زعلانه”؛ ليتركَ القارئ يبحثُ عن سببِ هذا السؤالِ السريع، هل أنَّ الفتاةَ تعرفُ مسبقاً بوجود خلافٍ بينَ الزوج وزوجه أم إنّها مشكلةٌ تسودُ المجتمعَ بأكملِه؟ وأيُّ الاحتمالينِ نرجّحُ؟ وما العلاجُ الأنجع؟
صورةٌ أخرى من علائمِ التشابكِ والازدواجِ في شخصيةِ الفرد والمجتمع، حينَ يصفُ الكاتبُ تعاملَ بطلِ قصّتِه مع الفتاةِ؛ إذ وصفَها بدقيقِ العبارةِ والاشارة، فجعلَ قلوبَ القرّاء ترتجُ مع ارتجاجةِ صدرِها, وتفوحُ مع رذاذِ عطرِها. ثمَّ تنقلبُ تلكَ الابتسامةُ إلى صفراءَ متخاذلةٍ تكشفُ عن أسنانِ بقرةٍ, فما سببُ هذا التحوّل؟ ولماذا يحقدُ البطلُ على هذه الفتاة الجميلة؟ حتّى يشبهُ وجهَها بالدميةِ, ويرى اسنانَها منخورةً مصفرة. لنعرفَ عاجلاً أنَّ الرجلَ قد امتلأَ غيرةً وحسداً عندما علمَ أنَّ لهذه الفتاة حبيباً تحبُّه وتعشقه.
فلنغادرْ بساطَ الخوص ونصطحب الحوذي بعربتِه وحصانِه القويّ, لنجوبَ المدينةَ وازقّتها, ففي قصّةِ “سوط” يعرضُ الكاتب أمامَنا إحدى المشاكلَ المجتمعيةَ المقيتةَ, وهي عقدةُ التكبّرِ؛ إذ يصرُّ سائقَ (البيكب) على عدمِ فسح المجالِ لعربةِ الحصانِ رغمَ أنّه في بداية الجسر, ثمّ نراهُ يتراجعُ صاغراً بعدَ ما أشبعَه الحوذيّ ضرباً, ليبيّنَ لنا أنَّ منطقَ القوةِ والترهيبِ يسودُ مجتمعنا, وأنَّ المعيارَ الأساس للقوم هو الثراءُ و الجاهُ.
” نخلة الله ” هي القصةُ التالية التي سنتسلقُ قمّتَها بحثاً عن التقاطاتِ الكنانيّ الفريدة. ففي نخلةِ الله يقدّمُ الكنانيّ عقدةً أخرى من عقدِ مجتمعِنا المستحكمةِ ألا وهي مشكلةُ الزواجِ, واختيارِ الزوجةِ, وما يصاحبُها من ترهاتٍ أثقلتْ كاهلَ السعادة, وبدّدتْ أمل الحبّ؛ فما يزالُ الناسُ حتى يومنا هذا يضحّونَ بالقلوبِ والمشاعرِ, وأحياناً حتى بالأرواحِ في سبيلِ الحفاظِ على ثوابتَ عتيقةً زرعتْها قيمُ الجهلِ والتعصّب, حتّى تحوّلَ الناسُ إلى آلاتٍ جوفاءَ تحركُّها أوهامُ الماضي وقيمُه المتهرئةُ.
في النهاية يضعُ الكنانيّ آخرُ قصةٍ له في هذه المجموعةِ, وهي لوحةٌ خضراءُ بامتياز. شجرةٌ وأغصانُ وعصفورٌ, نهرٌ وقطٌّ ومخالبٌ. عصفورٌ يرفرفُ بجناحيه على غصنِ متدلٍّ يهاجمُه قطٌّ كانَ متظاهراً بالنوم من أجل أنْ يفتكَ بفريسةٍ, لكنَّ العصفورَ يتمكنُ من الهربِ؛ ليسقطَ القطّ في النهر نادماً على فعلته. يختتمُ الكنانيّ مجموعتَه بقصةٍ تختصرُ الحياةَ وتشابكاتَها. فالمتظاهرون كثيرون يتسللون بينَنا بمكرٍ وحيلةٍ, ليشوّهوا جمالَ الحياة, ذلكَ الجمالِ الذي لا يرونه؛ لأنّهم لا يرون غيرَ القبحِ الذي صارَ جزءاً منهم. يختمُ الكنانيّ قصتَه بهذه العبارة: ” أمّا العصفورُ فقد زقزقَ منتشياً في قلبِ الشجرةِ, ملتقطاً ثمرةَ توتٍ لذيذةٍ بعيداً عن مخلب القط.” فمهما اشتدَّ الصراعُ لابّدَ للخيرِ وقيمِه من انتصارِ.