حديث المدينة… بقلم: عثمان ميرغني
مَأساة سُكّر النِّيل الأبيَض..
في عام 2012 شَرعتُ في إعداد تَحقيق صحفي استقصائي عن مصنع سُكّر النيل الأبيض.. بذلت فيه مَجهوداً كبيراً، مَا تركت مسؤولاً له صلة به إلا ووصلته في مكتبه أو حتى بيته.. حتى الدكتور جلال الدقير ذهبت إليه في منزله وقضيت معه ساعات طويلة.. ثُمّ سافرت إلى موقع المصنع وتَجَوّلت في أرجائه من المزرعة إلى كل وحدات الإنتاج الصناعي.. ثُمّ جلست إلى مديره العام السيد حسن ساتي واستمعت لتفاصيل إفاداته عن الوضع في المصنع والمزرعة.
عندما عدتُ إلى الخرطوم أعددتُ التحقيق في حوالي عشر حلقات، ونشرنا الحلقة الأولى، فإذا بتعليمات تَصلنا بوقف النشر تماماً.. جادلتهم في أنّ هذا النشر للصالح العام، وأنّه يضع الحقائق أمام الشعب صاحب الأموال الضخمة التي أُهدرت في هذا المشروع.. ولكن فشلت تماماً في نشر بقية الحلقات.. كنت أحس بغُبنٍ كبيرٍ ليس للمجهود الكبير الذي بذلته وتبدّد هباءً منثورا فحسب، بل وللطريقة التي تجعل مصالح الوطن والمُواطن تضيع في زخم حصانات تتدجج بها القيادات النافذة.. وأوقفنا النشر ولعقنا (الجرح الأبيض).. ونحن على يقينٍ أنّ يوماً آتٍ لا محالة وسينكشف الغطاء.
وفعلاً؛ الأسبوع الماضي تحت قبة البرلمان اضطر السيد وزير الصناعة د. موسى كرامة لنبش السيرة السيئة بناءً على استجواب من النائب د. فتح الرحمن فضيل.. واتّضح أنّ هذا المشروع الذي أُهدر حوالي ملياراً ونصف من الدولارات التي اُقتطعت من لحم الشعب السوداني الفقير.. وصل مرحلة الموت السريري.. بعد أن انحسر الإنتاج إلى حوالي 30 ألف طن بدلاً من 450 ألف طن سنوياً.. وتَفاقمت الدُّيون مع تراكم خسائر التشغيل المُتزايدة عاماً تلو عامٍ.
وفي حوار صحفي قال الدكتور عبد الحليم المتعافي، إنّ المصنع يَعمل بـ(10%) من طاقته، ولا جدوى من استمراره بهذا الوضع.
كل هذا كتبته وأكثر منه في التحقيق الصحفي الاستقصائي الذي مُنع من النشر، فمَن كَانَ المُستفيد مِن حَجب النَّشر؟!
بكل يقينٍ ليس الوطن، لأنّ استدراك الخطأ والزلل من البداية كان يَمنع عن البلاد شراً مُستطيراً من تراكم الأخطاء قبل أن تبلغ مرحلة الخطر القاتل.
ولهذا لا نضجر من تكرار أنّ الحُريات الصحفية هي لمَصلحة الوطن والمُواطن، لأنّها تحمي البلاد من الفواجع التي تستتر (خلف جدار الحذر).. فطالما أنّ المال مال الشعب، وكل أُصول الوطن هي مِلْكٌ للشعب فلماذا لا تُكشف له الحقائق المُغطاة أولاً بأول ليُراقب بنفسه ويحفظ أمواله وأُصوله من الضباع والتلف..؟
والواقع أنّ مصنع سُكّر النيل الأبيض هو مُجرّد نُموذج جَيِّد لحالةٍ سيئةٍ.. فغيره آلاف المشروعات والقرارات والمَصائب مَحمية بأنياب السُّلطة وهي كالسُّوس تَنخر في عظم وطنٍ مَا بَاتَ في جسمه ما يصلح للنهش..
أفتحوا أبواب الحُريات.. يصح جسم الوطن!