تداعي ظاعِن … بقلم: محمد دهب تلبو
تتحرك الجدة فتتحرك الخواطر في أفضيتها الشاسعة عبر طرق الأطياف المشْوّكة وتطوف العواطف بجنون في ساحات الضجر والوحدة،تلعن وحدتها والذباب العنيد على المنضدة الصغيرة التي تلازمها كالصديق قبل ان تجرجر خطى اليأس نحو مغارة الطعام، ترفع صحن إطعام قطها الهرم وتعدل من استقامة المكنسة اليائسة على كتف الحائط ثم تدلف، ثمة صحاف مرصوصة كيفما اتفق،علب لبن مجفف فارغة تجلس في صف مثل ذكرياتها المنسية،ترقد بداخلها الأغراض الاكثر أهمية مثل حب الشاي، السكر،الكمون،القُرنفل،الشيح والهبهان اللذان لايُشرب الشاي بدونهما،القهوة بزوجيها القِرفة والزنجبيل، ووصفات عشبية تخصها وحدها، تخرج علبة الثقاب لتشعل لهب الموقد، يتحرك “ضب” متعجل بين ثنايا كراكييب الأغراض في الركن الشمالي الشرقي مع نزول “ود ابرق” بعشيقته على النافذة الضيقة، تركب الجدة قطار التداعي هربا من خبث العاشقان الذي يذكرها بليالي الصبا على متن القوافل عبر ربى الفرقان والبوادي،تسقط الجدة في الفخ عندما تبالغ في التجنب، نيران “الظعينة” أوقدت توا في تلك الليلة المليئة بالماء والترحال، الهوادج مازالت على ظهور جِمالها، والحيران تستجدي أمهاتها رضاعة اجلتها الرحلة الطويلة وعواصف الامطار، رغي مهلك للنوق التي فقدت ولدانها في أخاديد وادي “ازوم” ورغي اكثر هلعا وزبد “للأتلاب*” ذات صنان البول عندما صاح العمدة “مسار” بصوته الجهور من على “دراه*”
-يافانطي ….فاطني أمبلموت* طرشة إتي؟
يأتيها صوت العمدة كالرعد الذي يكشف برقه ظلمة أمهات اشجار الصحب والحراز حولها
تتحرك برشاقة البدويات بعد ان خطفت غطاء رأسها لتقف بجوار عنقريبه ذا مسجل الناشيونال الضاج بصوت الهداي “ود الفكي” تقترب اكثر عندما تهدأ ضجة ودالفكي المتضامنة مع لهب النار الرطبة ،تجلس على طرف العنقريب حين يكون صوت زوجها اكثر حكمة وارتخاء ” البنية انطيناها لي ول أبوها ” ثم سيل من الحكم والأمثال البدوية مع وميض البرق ولهب نار الحطب التعبة،تسترق” البنية” السمع من وراء نارها التي تقلي مياه العصيدة،تحرقها روحها المعذبة بكبرياء النضوج تتوه
مابين الفرح والخيلاء ، تستعيد صورته في ساحة الرقص ، جلبابه الابيض الناصع ، قبعته الجالسة على رأسه بفخر، تسرها تلك الثقة قبل ان يزودها حياءها عن الرعي بأغنام ابليس فتواري مبسمها بطرحتها خجلا ، الايام الماجنة تخطفها وتنهب بها الزمن برجة جنونية ، تعصف بها رياح الوقت، تنثني لها طويلا قبل ان ترحل لتتركها في صحراء وحدتها هذه ، تضع القدر على لهب الغاز بعد ان قطعت البصل بعينين تبكي القَدر وليس حرارته ، الزيت له صوت الضجة التي تمور في رأسها الهرمة ،قلبت الليالي دون هدي الى ان استقرت بالليلة البهيجة، صوت نقارة القيدومة تضج بغنائها الخفيف
فرسه حدية حايمة **عروسه جدية نايمة
الصخب والعويل يمنح خيمة البروش ذات المرايا قداسة دير، تبتسم مع المرايا لكلماته البدوية التي لاتناسب مايحاول التعبير عنه في ليلة الميلاد الثاني ،ميقات اكتشاف اللذة وعبق ” الخُمرة” من بين ثنايا ثوب ” القرمصيص” خارج الخيمة سوح مظلمة “للسنجك والعريج” يتنازع صياحها الفضاء -الغابة- محتفلة ببنت العمدة ، تتدارك القِدر الذي يئن فوق شعلة الموقد تنزل طبختها اليائسة ، الوحدة هي ان تتقاذفك الأحداث عبر أزقة الذكريات ، يطير العاشقان هلعا من ارتباكبها الذي كسر احد الصحون،يموء القط ليذكرها بوجوده في فضاء وحدتها ، تضع مائدتها منزوعة الاشتهاء على المنضدة الصديقة وتفتح التلفاز لتمر مشاهده الباهتة ببرود الأجانب ، تتفرس الجدة سنيها الطويلة في صورتها المعلقة على حائط صالونها الوسيع، امرأة شامخة في لباس ناصع تمسك المقص بأحكام يظهر كفائتها ، تمر صور باهتة لأطباء اشادوا بها ، صديقتها الملحاحة التي جعلت ذلك ممكن،
“يابطمي انا يين والدكترة يين*”
دوامات لانهائية من التداعي، سحب تنخشع عن ايام مدرسة التمريض، قبل مدرسة التمريض،كورس اسعاف اولي ورش للتطوع عند حالات الطوارئ ثم اخيرا يأتي الخبر اليقين
“يايمة عادي والله انا بعرف كم واحدة يوم مادخلت مدرسة وهسي ياهن يايمة سسترات ليهن شنة ورنة” تلتفت الى صورتها المعلقة بالجانب الاخر لتقرأ ارق سنون الدراسة بالتلقين واندهاش المدربين، تزفر عليها بـ”الرحمة والسكنية” مكفكفة دمع الوفاء،يمورون وراء شاشتهم البلهاء صراخ وعويل لأزمات لن تنتهي ،كل ذلك لا يعنيها فالتلفاز ليس سوى صديق لجوج لابُد منه، تتكئ الجدة على الاريكة بعد ان يئست من كسر اضراب الحلقوم،تتخطفها خيول التداعي،تعترضها غابات كثيفة ملئى بقطعان الابل والضأن ، تتخلص منها ببعض اشواك على القلب ، تنهب خيول العذاب ازمان عنيدة قبل ان تقذفها لاهثة على وقت المرام،تجتر لوحدها سنين طويلة من الفرح ،ثم سني الفجع المبين، القدر لايطرق ابواب القلوب بل يدفعها ويخطف منها الجواهرثم يورثنا العذاب الساهد،سبع وتسعون ليلة تمر دون لقاء للجفون،سبع وتسعون من مطر الدموع الصيفي مع الظعن الجائل قبل أن ترميها الفواجع بأرض الوحدة الابدية.
تتأقلم مع الوضع مثل أي حرباء أسقطتها العواصف بأرض غريبة ، يموء القط بشجاعة عمال النقابات،ترفع صحافها البائرة وهي تضيف ” حليلك يا رفيق الروح” تنهمر عيناها بلوعة العشق الصادق، تهرع الى مسكن الآمها السرطانية بعد إطعام القط ،البوم صور الأحفاد ، صورة لصغيرها وهو يداعب كلبه، اخرى لأخته وهي ساهمة تتفرس مجلة رسومات ، أمهم وهي تبتسم ، تتحرك اليد مع الابتسامات الجامدة ، تنزل الدموع الثخينة، يرتجف الوجدان ،تتقاطع دوائر البوئس في الفضاء،المرء يولد وحيدا ثم يشكو الوحدة!،تتهادى من اقاصي الذاكرة أصوات حلقة “العريج “بأغنية الرثاء الابدي
الجاموس الصِبَيّ يا حِلو مالا جفيت علي!
حي وواي الفُرقة دِي حارة ليّ
تبكي الجدة بحرقة المكلومات ، مزيدا من التداعي ، الالم ، الوحدة، الضجر، تمسح عينيها بحرمان يتيم تتشهد وتستغفر ربها ، يرن جوالها الاخرس بنغمته التي تفتقر للبشارات السارة ، ترد ببرود من يتوقع اتصال خاطئ ليأتيها الصوت الذي لا يُنتظر
– هلو أمي معاك احمد – احمد حليلك ياولضمي* كيف عيالك
-كويسين والله أمي بكرة انشالله انا وعثمان وخديجة ومريم نازين السودان بطيارة المساء ومعانا الأولاد وناس هادية وحسون كمان قالو نازين بعد أسبوعين.
تلبو
——————–
اتلاب: جمع تلب وهو الجمل الفحل “السديس”
الدرا: مكان مضافة الرجال عند الرحل
أمبلموت: دعوة بالموت تقال كناية عن الضجر عند الرحل
بطمي،ولضمي:بنت أمي، ولد أمي
يين: أين
السنجك،الكاتم،العريج: رقصات بدوية تعتمد.