آخر الأخبار
The news is by your side.

تأملات قرآنية: في الآية 12 من سورة الأنفال

تأملات قرآنية: في الآية 12 من سورة الأنفال

بقلم: د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في الآية 12 من سورة الأنفال: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ”.

على الرغم مما جعل الله للبشر من آيات في أنفسهم وفي كل ما حولهم، ترشد العقل للإيمان به، وما أنزله إليهم من رسالات فيها هدى، إلا أنه تعالى يعلم ان معظم أهل الأرض لن يكونوا مؤمنين، بحكم أن أغلبهم من الذين يتبعون الشهوات والأطماع، وأقلية هم من يُحكّمون العقل والمنطق فيؤمنون، لذلك سيحدث الصراع بين أهل الباطل الأغلبية وأهل الحق ليردوهم مثلهم غاوين، لأنهم باتباعهم المبدأ الحق يكشفون الزيف الذي بنى عليه أهل الباطل حجتهم في الضلال. لذلك ستقوم الحروب التي يشعلها دائما الظالمون، ويكتوي بنيرانها المستضعفون، ولو ترك الله تعالى حسم تلك الصراعات خاضعة فقط للسنن الكونية المجردة (الأقوى يغلب الأضعف)، لأبيد المؤمنون وانطفأت شعلة الإيمان في الأرض.

لذلك فهو يتدخل دائما عند اختلال ميزان القوة لنجدة المؤمنين، شريطة أن تكون لديهم العزيمة للثبات على مبدئهم.

هذه الآية الكريمة واحدة من الآيات التي تبين آلية هذا الدعم، وغني عن التذكير بأنه لا قوة مهما عظمت يمكن مقارنتها بقوة الله تعالى، ويكفي العلم بأن الكرة الأرضية بكل ما فيها، لا تشكل أكثر من ذرة ضئيلة بالنسبة للكون الشاسع، ولو أراد الله ستتبخر في ثانية واحدة إن اقتربت قليلا من الشمس.

لكن البشر في زمن التنزيل لم يكونوا يعرفون هذه المعلومة عن الكون، وكانوا يعتقدونه محصورا في الأرض، لذلك جاءهم القرآن بصورة مفهومة لديهم، وهي المدد العددي، لأن القتال كان أيامها رجلاً لرجل، فقال في الآية السابعة: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ”، ثم بيّن في الآية التي تليها: ان ذكر عدد الملائكة بألف ليس للتكثير بل هي بشرى لطمأنة قلوب المؤمنين، فالأمر هو مشيئة الله، وتنفيذها يمكن بملك واحد، لأن حسم النتيجة هو بيد الله، وهو من يقررها، بغض النظر عن الحيثيات التي تجري وتسوقها الأسباب، فقد قرر في سورة الروم أنهم سيغلبون الفرس في الموقعة القادمة، وحدد زمنها مسبقا أنها بضع سنين، وقد نفذت مشيئته ولم تتأثر بأسباب الغلبة والتفوق العسكري.

نستنتج من التعمق في فهم معاني هذه الآية ما يلي:

1 – قرار الهزيمة والنصر في الصراعات البشرية جعلها الله منوطة بالأخذ بالأسباب، لكنه رحمة بعباده المؤمنين، ولغرض نجدتهم عند قصور الأسباب عن تحقيق توازن القوى مع عدوهم، يبشرهم أنه معهم، لكن ولكي لا يتقاعسوا عن إعداد العدة وبذل الجهد في تأمين ما أمكنهم من الأسباب، فقد ربط نجدته بقيامهم ما عليهم القيام به.

2 – ليست تلك النجدة محددة بالأفعال التي يقوم به البشر في قتالهم، فقد أوحى الى الملائكة في بدر وفي حنين وغيرهما أن عليهم تثبيت الذين آمنوا، وآلية ذلك أن الله سيرهب أعداءهم، بأن يتدخل بقدرته في عملياتهم العقلية، فيجعل حساباتهم في قدرات المؤمنين وعددهم غير ما هي واقعا، بل هي أكثر بكثير، فيرتعبون وينهزمون، لأنهم لو أخذوا بالحسابات الواقعية ورأوا تفوقهم الكبير في العدد والعدة على المؤمنين لما هابوهم ولأقدموا على قتالهم غير هيابين.

3 – المدد المادي الذي تقدمه الملائكة لتثبيت المؤمنين، هو إفشال رمي الكافرين وتشتيته، فالضرب هنا فوق الأعناق ليس بالسيف، ولا بأداة أرضية، بل هو ضرب للدماغ فلا يمكنه التركيز في الهدف، وضرب كل بنان هو في التحكم العضلي فلا تتحرك الأصابع لتنفيذ الأمر في الوقت المناسب، فيخطئ الرامي.

إن الواقع التاريخي في كل المواجهات بين المسلمين الصادقين وأعدائهم أثبت ذلك، فما كانت انتصاراتهم وفتوحاتهم وصدهم لغزوات أعدائهم يوما عائدة لتفوقهم العسكري.

وثبت ذلك مرة أخرى في معركة الطوفان الحالية، فرأينا كيف أرعب بضعة آلاف مؤمن لا يملكون الا الأسلحة اليدوية أعتى قوى البشر مجتمعة، فجمعوا لهم الجموع الهائلة، وحسبوا لهم ألف حساب، ومع ذلك أفشل الله رميهم وأبطل كيدهم، ولم ينالوا من قدرات المقاومة شيئا، وسنرى نصر المومنين بإذن الله، وكيف أن القلة الصابرة غلبت أعظم قوة في التاريخ.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.