تأملات قرآنية..في آخر الآية 21 من سورة يوسف
تأملات قرآنية..في آخر الآية 21 من سورة يوسف
بقلم: د. هاشم غرايبه
يقول تعالى في آخر الآية 21 من سورة يوسف: “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.
جاءت هذه الآية في سياق قصة يوسف، فقد سرد الله القصة، متفردة عن باقي القصص التي أوردها القرآن الكريم، بكونها الوحيدة التي وردت كاملة، في سورة واحدة، ولم ترد في أية سورة أخرى، وذلك ليبين فيها تعالى لأولي الألباب السنة الأهم من بين سننه الكونية في تدبير شؤون خلقه، وهي أنه يصرف الأقدار ويسوق الأحداث ليتم أمرا قضاه في سابق علمه، ولن يمكن لأحد تغيير ما أراده، ولا تعديل سياقات الأمور ليبطل أمرا كتبه، لأن كل شيء في قبضته: موجودات الكون والقوانين الناظمة له وقلوب البشر، وحتى أفكارهم ونواياهم وعواطفهم.. بإمكانه لو أراد أن يغيرها ويحولها كيف يشاء.
ذلك يكشف غباء الفكرة القائلة بعبثية الوجود، وأنه ما من مدبر ولا مسيطر على أحداث الكون.
مثال من الواقع يثبت ذلك، فلو أتينا بشخص يعيش في منطقة معزولة لم تعرف التطور المعاصر، ورأى تلك الطرق السريعة والتقاطعات المعقدة لها على مداخل المدن الكبيرة، وإشارات المرور الضابطة لحركة السيارات، وشاهد هذه السيول المكتظة من السيارات، تسير مسرعة، كل الى بغيته، لا تتضارب مساراتها ولا تتصادم ولا تعيق بعضها بعضا..هل يمكن أن يعتقد هذا الشخص أن ذلك الانتظام والدقة جاء بالصدفة المحضة، وليس نتاج قدرات وعلم وحكمة جهة منظمة حددت كل شيء بدقة، وأنها تملك السلطة لإجبار السائقين على اتباع تعليماتها، ولا تترك الأمر لاختيارهم وأهوائهم؟.
إن تنظيم السير هو مفردة بسيطة مقارنة بتنظيم شؤون الناس والخلائق والكون..، لذلك أليس غبيا من يعتقد أن الأقدار وتصاريفها عبثية والأحداث تحدث بعشوائية.
لقد أراد الله أن يؤتي العلم للبشر الذين أحبهم فكرمهم بنعمه الكثيرة التي لا تحصى، وخلقهم في أحسن تقويم ليظلوا أرفع الكائنات الحية، فأوجد لهم العقل ليتفكروا به، ويتعرفوا إليه من آثاره المادية، من خلال الآيات الكونية القاهرة التي تدل على عظمته، والآيات التكوينية التي تدل على إحكام خلقه ودقة تنظيمه، والآيات القرآنية التي تفسر تلك الآيات وتوضح حكمته وتبين تشريعاته التي تجعل حياتهم سعيدة.
ولما أن الله تعالى أراد للبشر أن ينالوا كل ذلك بإرادتهم وباختيارهم، لتكون حياتهم الدنيا مقدمة لحياتهم الآخرة، فتتحدد درجاتهم فيها بحسب ما قدموه في الأولى، فقد رتب فيها الأحداث لتكون بمثابة ابتلاءات وتمحيصات.
لذا جعل طريق الارتقاء محفوفة بالمكاره والصعاب، والطريق الى جهنم محفوفة بالملذات والمغريات، لفرز من يطلب المعالي فيصبر ويتحمل، من ضعاف النفوس الذي يسقطون عند أول عقبة، تماما مثل سباق الحواجز، الذي يفرز ذوي اللياقة العالية.
لقد رأينا في سياق قصة يوسف كم تتناسب المعاناة مع ارتقاء الهمة، فمحنة يعقوب عليه السلام في فقده يوسف صغيرا كانت مؤلمة، لكنه صبر لعلمه أن ذلك امتحان له، ثم صبر عند احتجاز أخيه في مصر، ورغم أنه فقد بصره من كثرة البكاء، لكنه تحمل ولم يقنط متيقنا من فرج الله، ثم جاءه الفرج عندما أتاه الله بهم جميعا، وليس ذلك فقط، بل كافأه الله في الدنيا قبل الآخرة، فرأى بعينيه كيف ارتقت العائلة كلها ونعمت حياتهم بعد ذلك.
من هنا نفهم لماذا كان أكثر من في الأرض غير مؤمنين، بل حتى الأنبياء والمصلحين وعلى الرغم من أنهم كانوا خيار البشر، واختارهم الله تعالى من الصالحين المعروفين بصدقهم واستقامتهم، إلا أنهم ما آمن معهم الا قليل.
ولذلك ظل عباده الصالحين ومتبعي منهجه طوال كل العصور، يعانون من ظلم وتعسف الجبارة والطواغيت وذوي الأطماع.
إن ما نراه من معاناة متبعي منهج الله في غzة، التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراعات، يدلنا على أن فرج الله قد اقترب، فتآمر حكام المسلمين على قضية فلسط_ين فاق تآمر إخوة يوسف عليه، لكن النتيجة أنه هو من نال العلا في الدنيا والآخرة، وكان من نسله بنو اسرائـ_يل الصالحون، فيما تناسل من إخوته اليhـود الذين ضربت عليهم الذلة في الدنيا، والمغضوب عليهم في الآخرة.