«بلدي»: عندما تدفعك الحرب للهروب من جحيم إلى آخر
سودان بوست
قور مشوب
حتماً، هناك ما إستفز كوين زي، كثيراً. وإلا، لما خرجت أغنية «بلدي» إلى النور. أكثر من ذلك، فإنها تعود، مجدداً، لتُشاركنا بمشاعرها، وأرائها، حول قضايا الوطن والمواطن، بعدما إنتهت من الإهتمام بقضاياها الشخصية، في الفترة الأخيرة.
بعد أغانٍ مثل: «أومون ما داير أنا»، «أستاذ»، «تالي بي باب»، «بارتي غيرل»، «حبيبي»، «كابارا»، و«أنا تابان».
اليوم، تأتي «بلدي». هنا، أي محاولة لوضع أغنية «بلدي» في مقامٍ واحد مع بقية الأغاني، نهايتها معروفة: الفشل. ببساطة، فالأخيرة، جاءت بعيدة عن الذاتية، التي عرفت بها كوين زي، في أغانيها الأخيرة، لتتجاوزها إلى ما هو أسمى: الوطن.
لذا، فإن ما يمكن إدراكه، من خلال الإستماع إلى أغنية «بلدي»، إن كوين زي قد عادت بنا إلى الماضي، الماضي الذي كانت تُغني فيه: «أمة واحدة»، «ضحايا الحرب»، و«إيدز». مع ذلك، فإن «بلدي» تجاوزت بقية الأعمال، لتقبع في القمة، لوحدها. بالتأكيد، هناك العديد من الأشياء التي تجعلها، مميزة.
هذا وعدي
كان لافتاً، إن كوين زي قد أوفت بوعدها. لقد وعدت الجماهير، بأنها ستُقدم لهم أعمالٍ مميزة. حسناً، الآن، هي تذهب في ذلك الإتجاه، بالفعل. هذه الأغنية، «بلدي»، تأتي في هذا الإطار. فالعمل، يحمل بين طياته الكثير، بالتأكيد.
فقط، طريقة واحدة تؤمن بها كوين زي، وترى بأنها تستطيع، عبرها، العودة إلى القمة: طريقتها. هذه الطريقة، تبدأ بالسير خطوة بخطوة، بتقديم أعمالٍ فنية متميزة، عدم الإلتفات إلى الخلف، الإلتزام الصارم، والعمل على الإيفاء بالوعود.
الآن، «بلدي» هي الخطوة التالية لـ«كابارا». في الواقع، هي أكثر من ذلك، بكثير. هي، بالفعل، قفزة كبيرة في مسيرتها الفنية. فالأغنية، إستضافت فيها بوسكو، المُنتج والمُغني، الجنوبي، المُقيم في القاهرة، قفزت بها إلى الواجهة، بقوة.
لماذا نحن هنا؟
يبدو سؤالاً وجيهاً، وأيضاً، في ذات الوقت، يُجيب عن السؤال الجدلي: ماذا إستفز كوين زي؟ ببساطة، ما آلت إليه الأوضاع هناك، في جنوب السودان، بسبب الحرب، وما ترتب عليها، تالياً. هذه الحرب، كان المواطن المتضرر الأول منها، من خلال دفعه الثمن غالياً: معاناته للبقاء على قيد الحياة، أو لتوفير لقمة العيش، فقدانه لحياته، ولجوئه.
كُل ذلك، فقط، نتيجةً لعدم الإستقرار وغياب الأمن. لذا، تبدو مهمومة بقضية الوطن، وكل ما يخص المواطن. بالتالي، لجأت إلى هذه الطريقة لتسليط الضوء على ذلك، مع التركيز، بشكلٍ أكبر، على أوضاع المواطنين في الخارج.
بالطبع، هذا يعكس الوجه الآخر لـ«كوين زي». للحقيقة، فإن هذا الوجه، لا نراه، إلا، نادراً!
«بلدي»: صرخة في وجه الساسة
هنا، في «بلدي»، توصل كوين زي رسالتها بالصراخ، الإعتراض، والغناء، في وجه السياسيين، بأن المواطنين يعانون، في الخارج. هم يعانون، ليس في مصر فحسب، بل في يوغندا، كينيا، السودان، الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، وشتى أنحاء العالم.
هذه المعاناة، لم تكن بإختيارهم، وليس لهم يد فيها، فقد إضطروا لمواجهتها، من خلال الهروب من الجحيم إلى آخر أكبر، بسبب الحرب. لقد إعتقدوا بأنهم قد تركوا الجحيم خلفهم، بالرحيل عن البلاد. لكنهم، لم يدركوا، إنهم قد رحلوا إلى جحيم آخر.
الجحيم: «أن تكون جنوبياً في القاهرة»
هنا، لا تحاول كوين زي تجميل الواقع أو تكذيبه. لا، إطلاقاً، هي تنقله لنا، كما هو، نوعية الحياة التي يعيشها، من إختاروا مصر، وطناً ثانياً، لهم.
منذ البداية، تصطدمك الأغنية بالوضع المأساوي للجنوبيين، الذين يعيشون، في القاهرة. فلا مجال، هنا، للمقدمات الطويلة الرنانة، ليست هناك طريقة للمراوغة. فقط، الصراحة والمباشرة، ولا شيء آخر. هذا، كل ما تقدمه لنا الأغنية، حالياً.
«بلدي بلدي
أولاد تانينا بكتلوا
بقطعوا
بضبحوا
بجدعوا في الشارع
وبرضوا بنات تانينا»
بالطبع، هذا من ضمن الرسائل العديدة، التي تحويها الأغنية. فالمعاناة لا تتوقف، هنا. هذه، مجرد بداية. لكن، الجزء الأهم: أنه لا تُفكر في اللجوء إلى مصر، مهما كان السبب. هكذا، وبكل بساطة، تُخبرنا. وإلا ستضطر لتحمل العواقب. هذه العواقب، تبدأ بالتجاوزات، التحرش، الإهانات، البذاءات، الخطف، التحريض على القتل والمضايقة، ولا تنتهي بالقتل! بعد كل هذا، هناك رعب أكبر سيأتي، لاحقاً.
«بكتلو أنينا يومي
بيستعمروا أنينا يومي»
إذن، ما العمل؟ في الحقيقة، لا شيء. فقط، السبيل الوحيد المتوفر، لتجاوز كل ذلك: الصبر.
«أنينا بصبر فوقوا زي دي
أنينا بقني فوقوا زي دي»
تلك، هي الوصفة السحرية التي تُقدمها لنا الأغنية. لماذا؟ لأن المواطن البسيط عاجز، غير قادر على تحمل تكلفة الحرب، ونتيجتها. لهذا، إضطر لمغادرة بلاده، بحثاً عن الأمان، الحرية، وحياة كريمة، له ولعائلته.
****
كل هذا، يفتح الباب على مصراعيه، لطرح الكثير من التساؤلات: لماذا هذه المعاناة؟ لماذا علينا رؤية مشاهد: المعاناة، التعرض للإهانات، الخطف، الإبتزاز، التجاوزات، والقتل، بصورة يومية؟ حسناً، الإجابة جاهزة، بالتأكيد.
«أشان سلام مافي في بلدي
أشان حرية مافي في بلدي
أشان موحابة مافي في بلدي»
هذه الأشياء، هي الثمن الذي يدفعه المواطنون، نتيجةً لصراع مصالح، بين فئة قليلة من الناس. تلك الفئة، لا يهمها، إلا، مصالحها الشخصية، تسعى جاهدة لجمع الثروة، السلطة، المناصب، والقوة.
أكثر من ذلك، فإنهم يعانون، داخل وخارج بلدهم، لعدم وجود السلام، الأمن، الإستقرار، الحرية، والمحبة. لهذا، يغادرون بلدهم. لكن، لسوء حظهم، فإنهم يغادرونه إلى جحيم آخر، لم يتوقعوه!
****
«إستعمار إتا أينو
ياهو كلو زي دي
زمان أنا جا حياة كان صعب شديد»
ما مضى شيء، وما هو قادم يعتبر شيئاً آخر. حتى المعاناة، لها العديد من الأوجه: معاناة الوصول، البحث عن عمل، لتفادي الإهانات والشتائم، ولعدم الوقوع في فخ الإستغلال، وغيرها.
«أنا فتش شغل
ليقوا لي أنا شغل
قال لي في يومية
قالي في ماشي وجاي
قالي في موبيل
بس ما تسألوا ده ياتو نوع تا شغل
لأنو مافي زول بيجاوبوا إتا
أنا شيلو شنطة تاي
أنا نزل موبيل»
هنا، تُلقي كوين زي الضوء، على نوعية الأعمال، التي تعمل فيها الجنوبيات: خادمات وربات بيوت. بالطبع، لم تقم بالتعميم. لكنها، تتحدث عن حالة منها: إنهن يعملن بالسخرة أحياناً، باليومية. فوق كل ذلك، يكون عليهن، التكفل بمصاريف الترحيل، المبيت في مكان العمل، التعرض للإذلال، عدم السؤال عن نوعية العمل، والعمل في ظروف قاسية، وغيرها.
بعد هذا، عليهن التحمل، لأنه لن يُساعدهن أحدٌ. الحقيقة، أنها ستتعرض للمضايقة، في كل الحالات، سواء قامت بالعمل، بشكلٍ صحيح أو خاطيء.
«أنا بدأ غسلوا حمام قالي لسه ما نضيف
أنا رجا غسلوا تاني قالي أمشي يا سمارة
حاجات الأنا أينو ربنا ياهو شاهد
أوه! إستعمار ورا إستعمار»
في الواقع، النعت بـ«يا سمارة»، يكون، في الكثير من الأحيان، أخف الأضرار. بالفعل، قد يصل، لسخرية القدر، إلى درجة إعتباره ألطف أنواع المضايقات. في ذات الوقت، هي تكشف عن مدى عنصرية المصريين، بسبب الإشارة الواضحة، إلى لون البشرة، من أجل السخرية، منهن.
مع ذلك، هناك، ما هو أسوأ. لكن، كوين زي، ترفض الذهاب أبعد من هذا، تكتفي بالكشف عن هذا القدر، من المعاناة والمضايقات، ثم تقوم، بالشكوى إلى الله، وتجعله شاهداً، على كل ذلك!
****
ما سبق، ليس كل ما تتعرض له الجنوبيات، من مضايقات ومعاناة، في القاهرة. بإختصار، كل هذا، تمهيدٌ لما هو قادم.
«… وبرضوا بنات تانينا
بيستعمروا
بيقبضوا
بيحبو
كان أبا بيكتلوا
أوه أوه
ربنا ياهو إتا شاهد الحاجات البحصل لي أنينا»
يا لها من مأساة. في كل الحالات، النهاية معروفة، للجميع. لكن، ما عليه إختلاف هو البداية، فأحياناً، يبدأ الأمر بالإذلال في العمل، الشارع، النظر إلى الفتاة الجنوبية نظرة دونية، ملاحقتها من أجل التودد إليها، ومن ثم الإرتباط بها.
هنا، الويل لمن ترفض، فالنهاية معروفة: القتل. ما العمل؟ الدعاء إلى الله، وإنتظار الفرج!
****
للإمعان في الإذلال، فإن الإمر لا يتوقف، هنا. لا، المعاناة تتواصل من خلال سكب الماء، والأكل على الفتيات. وأحياناً، بإلقاء النفايات عليهن.
«بروشوا إتا بي موية
بروشوا إتا بي أكل
ومرات بيدفقوا وساخة في جسم تاكي»
لكنهم، رغم ذلك، لا يكتفون بكل هذا. الوجه الآخر للمصريين يظهر، هنا، من خلال الألفاظ العنصرية التي يتم الإساءة بها، للفتيات. بالطبع، لا يهم اللفظ، فسواء كان «سمارة» أو «شوكولاتة»، فإن المقصود واحد: السخرية من اللون الأسود.
«قالي أمشي يا سمارة
أمشي يا شوكولاتة»
****
تلقي الإهانات بإستمرار، التعرض للإذلال، المعاناة في الشارع، وغيرها. كل هذا، يفتح الباب واسعاً أمام أي شخص يتواجد في القاهرة، للإصابة بخيبة الأمل، الإستياء، والبحث عن حلول ناجعة، لهذه المشاكل. في هذه الحالة، فإن العودة إلى الوطن، تبرز كخيارٍ أول.
«ربنا ياهو إتا شاهد لي أنينا الجنوبيين
أنا تابان أنا داير أرجع في بلد تاي
أنا تابان داير أرجع لي جنوب سودان»
وحدها، المعاناة، تعتبر سبباً كافياً يدفع المواطن للعودة إلى الوطن. صحيح، ربما تكون أمامه الكثير من الخيارات. لكنها، تُعتبر أكثر كُلفةً، بالنظر إلى الوضع الذي سيكون عليه التعايش معه، في القاهرة.
****
لتفادي كل هذا، يُقدم لنا، بوسكو، الوصفة السحرية، بشكلٍ بسيط.
«ما تاسيبو إيال تاكي جيرا من بيت
ما تاسيبو جينا تاكي جيرا من بيت»
من الوهلة الأولى، يبدو الحل بسيط جداً. لكنه، ليس كذلك، فبداخله، يحمل الكثير من الصعوبات والتعقيدات. هنا، مربط الفرس، فالحكومة غير قادرة على ذلك، وإلا، لما قامت الحرب وجعلت الكثيرون يُغادرون جنوب السودان.
لتوضح ذلك، فإنه ينبغي فهم ما وراء الكلمات، ما قصده بوسكو بـ«إيال»، «جينا»، و«بيت». في المرة الأولى، قصد فشل البلاد في إقناع كوادرها وأبناؤها، بالبقاء في الوطن، وفي الثانية، قصد الأطفال، لأنهم أبناء اليوم والمستقبل.
تلقائياً، يتضح المقصود بالأخيرة، فهي تعني المنزل والوطن. لكن، بما إن هؤلاء قد تركوا البلاد، فإنه لا مفر من المعاناة، الحرب، ولا جدوى من السلام. ببساطة، لأنه لم تُتاح لهم الفرصة لوضع بصمتهم، للمشاركة في بناء الوطن، لإيصال رؤيتهم، وللمساهمة في إرثاء دعائم الأمن، السلام، والإستقرار.
تحت المجهر
يبدو لافتاً، الشكل النهائي الذي خرجت به الأغنية. لقد كانت كوين زي، موفقة في إختيار الموضوع، اللغة، والشخصية المناسبة، للتعاون معها. إذا كان مقصوداً، الإكتفاء بعربي جوبا فقط في الأغنية، فإن الأمر قد لاقى النجاح المنشود. إطلاقاً، ليست هناك طريقة أفضل لإيصال هذه الرسائل، للمواطنين والمسؤولين، من عربي جوبا، فهي تُعتبر العامل المشترك، بينهما. كل هذا، ساعد الأغنية لتسير في الإطار الذي يُناسبها، ولتخرج، بهذا الشكل.
ما يُحسب لكوين زي، إنها لم تحتاج إلى إصدار الأغنية مصورةً، لتنجح في إيصال رسائلها. وحده، صوتها كان كافياً لذلك، فالوضوح، الصراحة، والمباشرة، الذي بدت فيه الأغنية، يُغنيها عن تكبد عناء أكبر، لتوضيح رؤيتها. بالفعل، لقد نجحت كوين زي. لذا، لن تحتاج إلى الصورة، لتفهم ما أرادت إيصاله، فقد نجحت في ذلك ببراعة.
بالنسبة إلى التعاون مع بوسكو، فإن كوين زي كانت موفقة في ذلك، بشكلٍ كبير. لقد بدت بصمته واضحة للغاية، سواء من حيث الإنتاج، التوزيع، أو الغناء. صحيح، مشاركته في الغناء لم تضف الكثير للأغنية. ربما، تأخير دخوله إلى النهاية، ما أوحى بذلك. لكن، إنتاجه لـ«بلدي» أضاف إليها الكثير.
إطلاقاً، لم يُعرف عن كوين زي إستخدامها للجيتار في أغانيها، فغالباً ما كانت تكتفي بالإيقاعات، وهو أمرٌ يُعتبر غريباً. هنا، أفسح المنتج المجال للجيتار، ليظهر بوضوح، ليضيف بعض الروعة، للأغنية. لا بد، وأن السبب في ذلك، يعود إلى بوسكو، وإلا، لما حدث هذا في «بلدي».