آخر الأخبار
The news is by your side.

الشاعر عمر الطيب الدوش .. يتصيد الليالي المقمرة

الشاعر عمر الطيب الدوش .. يتصيد الليالي المقمرة

 

بقلم: يحيى فضل الله

(( العزيز يحيي

تحيات امدرمانية خالصة

اكتب اليك و انا واقف علي حيلي علي بترينة مكتبة مجدي الحواتي، الشارع كما هو، زعيق العربات القادمة من امبده، الفتيحاب و من ابوسعد و من حيث لا يدري احد، بإختصار، انا مشتاق لك و لهادية و الاولاد وبإختصار اكثر، هل هناك إمكانية لقدومي الي القاهرة؟، في ذهني بالتحديد فرص العمل او الدراسة، اذا كان بالإمكان إرسال بعض من الكتب الجيدة الجديدة فافعل

حبي و اشواقي

عمر ))

كنت أقلب في اوراقي القديمة فوجدت قصاصة صغيرة، هي نصف ورقة من صفحة كراس مسطر و كانت تلك القصاصة هي رسالة بعثها لي الصديق الراحل المقيم أقامة أشعاره في الوجدان السوداني و الانساني عامة، وصلتني هذه القصاصة في العام 1997 و قبل اقل من عام من رحيله في اكتوبر 1998 و هاهي الان تلك القصاصة مدخلي لهذا التداعي.

هذه القصاصة أحالت ذاكرتي الي الكراس الاخضر المبقع بلطشة من زبادي و بعض بقع زيت علي غلافه الخلفي المحتل بجداول الضرب، الكراس يخص تلاميذ الابتدائية ، علي هذا الكراس كان عمر الدوش يدون شخبطاته الشعرية و مداخل الي قصائد قادمة و قد لا تأتي ابدا و في كراس اخضر اخر كان يدون فيها القصائد في مرحلة ما قبل الرضا عنها فعمر الدوش نادرا ما يحس بالرضا علي ما يكتب، لذلك تتخولق القصائد عند عمر الدوش بصعوبة باهظة تكلفه الكثيف من التأمل و الطشاشات.

عمر الدوش شاعر كثيرا ما ينتمي لنسيانه، يهرب من ذاكرته و ذاكرته لا تملك قدرة التمرد علي هذا النسيان ، تداهمه القصائد اينما كان، احيان كثيرة كان يتجول خالي الوفاض من الاقلام و الورق، يحاول ان يجعل خيوط تلك الذاكرة ان تتشبث بالكلمات التي تزاحم بعضها البعض و تتصارع كي تولد تلك الجمل الشعرية، كانت دائما ما تنفلت منه كتاباته، انه يكتبها فقط، تخونه الذاكرة فلا يحفظها و لا يحتفظ بها.

في ليلة قمراء منفلتة ، كنا في طريقنا الي بيتنا في (بانت) من (الموردة) حيث سهرنا مع احد اصدقاء عمر الدوش القدامي، حين وصلنا سوق (بانت) لاحظت ان عمر كان يتقدمني شبه مهرول الي كوم من الرمال امام احدي الدكاكين للصيانة و حين اسرعت كي اصله، وجدته جلس علي الارض امام كوم الرمال ، مسح عمر الدوش بكفه علي كوم صغير بعد ان كونه من تلك الرمال ، مسح بكفه مكونا مستطيلا من الرمال مستعيدا طفولة المدارس حين كان المدرسون يحاولون ان ترتبط تلك الاصابع الصغيرة بالارض و هي تتعلم كيف تكتب الحروف ، كان عمرالدوش يمسح بكفه علي المستطيل الرملي، هو جالس و انا واقف من خلفه و القمر يناوش المشهد بدفقة من ضياء، يمسح عمر الدوش بكفه علي الرمال و كأنه يتحسس نعومته و بتوتر ملاحظ كتب كلمة (سحابات) و حين فعل ذلك تحسست قلمي الذي دائما معي و بسرعة ادخل يدي في جيب البنطلون لاجد فيه ورقة قديمة فيها كتابة تخصني و حين نظرت للمستطيل الرملي وجدت عمرالدوش و بنفس ذلك التوتر قد مسح الكلمة، وجدت هامش فراغ في اركان الورقة و كتبت كلمة (سحابات) التي مسحها عمر الدوش و كنت مشدودا و منتظرا واقفا خلف عمر الدوش متأهبا لاكتب في نفس اللحظة ما يكتبه علي الرمل، بينما عمر الدوش تجادل منه الاصابع الرمل بمسح من اليمين بباطن الكف و من اليسار بظاهر الكف و يتكرر هذا الفعل و أتاهب انا اكثر حين الاحظ توتر الاصابع ، يكتب عمر الدوش (سحابات الهموم) ، اسجل ذلك علي طرف الورقة و بتوتر يمسح عمر الجملة و يعود الي فعل المسح المتكرر و كأنه يفكر فيما يكتب و تتوتر الاصابع و تكتب (سحابات الهموم يا ليل) و اضيف انا كلمة (يا ليل) الي ما سجلت و هكذا يتدفق الشعر من وجدان عمر الدوش و تكتبه الاصابع علي رمل يجادله قمر اليف و حميم وكان ميلاد هذه القصيدة -(سحابا الهموم)- ، بعد قراءة عمرالدوش لما كتبه علي الرمل و ما سجلته انا علي اطراف تلك الورقة،كانت هذه القصيدة، قصيدة وليدة هذه اللحظة الكثيفة و المعتقة بنشوة عمر الدوش العارمة و ما كان لها الا ان تستقر في اوتار و حنجرة (هبابة عرق الجباه الشم)، مصطفي سيداحمد

(( سحابات الهموم

يا ليل بكن

بين السكات و القول

و باقات النجوم الجن

يعزن في المطر

فاتن عزاءك رجعن

و شوق رؤياك

زمان مشدود

علي اكتاف

خيول هجعن

وصوت ذكراك

مكان يجري

يلاقي السيل

و سر مدفون

بصدر النيل

و لولا الذكري

مافي اسف

و لا كان التجني وقف

و صوت ذكراك

رذاذ صفق

علي خطوة

بنات سجعن

و شوق رؤياك

حنين لي غيبه في المجهول

و لو لا الذكري مافي وصول

و لولا الذكري ما في اصول

و لو لا الذكري ما في شجن ))

هكذا يكتب الشاعر الروائي عمر الطيب الدوش قصيدته علي الارض محرضا ذاكرته كي تحتفظ بها الي حين ان يلوذ بقلم و ورقة و لكن دائما ما يكون للنسيان تلك السطوة التي لها القدرة في ان تهرب تفاصيل القصيدة الي حيث لا يستطيع الشاعر ان يلملم قصيدته التي نثرت الرياح حروفها في الفراغ محيلة اياها الي غبار لا يعرف ان من بين ذراته ذلك التجلي الجميل.

شاعر في النسيان تموت قصائده ،تكتبه القصائد حين غفلة من فعل التدوين و فعل القلم علي الورق، لا يملك إلا سراب التنهدات بين تلك المقاطع الشعرية الضائعة ولكن الذين صادقوا شعره حاولوا ان يصادقوا فعل التدوين، تدوين قصائده وهكذا ذاعت بين الناس بعض تلك القصائد و بعض منها اكتفي بعدم الإكتمال و النضوج فكان اصدقاء شعره يتلمسون توهج الحكمة الشعرية حتي و لو كانت تبين في مقطع واحد او حتي في نصف مقطع، علي كل، حاول هولاء الاصدقاء فعل التدوين معه و متابعته في كل لحظة تداهمه فيها حالات الشعر فكان ان حاول الشاعر ان يتخلص عن فوضي الحالة الشعرية التي تجعله يلوذ بقصائده علي ارض سرعان ما تتحول الي غبار، حاول ان يتمرد علي ذلك فاشتري من الدكان المجاور عدد من الكراسات الخضراء تلك و قرر ان يدون عليها افكاره الشعرية و لكنه بالرغم من ذلك كان يتصيد الليالي المقمرة و يكتب قصيدته علي الارض.

ضاعت من عمر الدوش حكاية شعرية هي (ضل الضحي) وحين كنا نحاول ان نجمع قصائد ديوانه الاول (الساقية) الصادر عن دار (النسق) و هي دار ضاعت من ضمن ما ضاع من تفاصيل ثقافية اخري في متاهة الديمقراطية الثالثة، حين كنا نجمع اشعار عمر الدوش المبعثرة هنا و هناك لم نجد في ذاكرته غير هذا المقطع من تلك الحكاية الشعرية.

(( ضل الضحي مشوار

الونسه بالسفة الكبيره

و الكتاتيح و الغبار

الفاقه و العمر الهظار

الحسرة و الزمن

البروح سمبهار ))

في رحلة ترفيهية لموظفي و موظفات (مصلحة الثقافة) – رحمها الله – في (غابة الخرطوم) التقي بالاستاذ (محمود عكير) ، الموظف في (ثقافة الطفل)، شاءت الصدفة ان استمع لـ (محمود عكير) و هو يقرأ هذه الحكاية الشعرية من ذاكرته، كان الاستاذ محمود عكير – رحمه الله، فقد رحل من ضمن من رحلوا في تلك التسعينات المشئومة من القرن المنصرم – كان فاقد البصر و متقد البصيرة لذلك كانت له تلك الذاكرة المتوهجة.

حين كنت في القاهرة و بعد ان حصل عمر الدوش علي حكايته الشعرية الضائعة ،اشتغل عليها لتصبح رواية شعرية بامتياز ، كانت الحكاية الشعرية الضائعة عن (محمد ود حنينه) فأضاف اليها عمر الدوش شخصيات روائية اخري مثل (طه المدرس ود خدوم) و (صالح ود قنعنا) و (العمده ود خف الفيل) وهده الرواية الشعرية نشرت في ديوانه (ليل المغنين).

(( اقول

و الشمس في عز النهار

تهت و مشيت

اقول

يا نحن يا انتو

و بكيت

يا مواعيد

يا صباح

من غير رسم

تهت و مشيت

ما ضلمت

ما بتعرف

الزول البجيك

و لا البجيك

بيعرفك

حتي الشبابيك

و الزوايا

الكان بتجمع

في حناياها الشكوك

ضلمت ))

تناقل جمهور الشعرخبر قصيدة جديدة لعمر الدوش هي قصيدته (ضلمت) و تم تخصيص ليلة شعرية كي يتمتع الجمهور بهذه القصيدة الجديدة و التي هي حتما كانت قد اجلست شاعرها القرفصاء علي تراب مضاء بقمر لا يملك الا تفجيره للشعر و من ثم إنتقلت الي تلك الكراسة الخضراء.

جمهور غفير كان في انتظار تلك الليلة الشعرية ، خصصت عربة كي تأتي بالشاعر من منزله الي مكان الليلة و قد كان ان حضر الشاعر و معه كراسته الخضراء و قد لاحظ البعض بقع الزيت علي الغلاف الخلفي للكراسة فزاد الإعجاب بالشاعر و كراسته تلك المتسخة خارجيا و لكن داخلها تخبئ جوهرة الشعر النقية.

وسط إستقبال حافل بالشاعر عمر الدوش ، تم تقديمه تقديما أكد مقام قصيدته الجديدة (ضلمت)، صعد الشاعر عمر الدوش الي المنصة و رحب و شكر ذلك الجمهور و تحدث قليلا عن قصيدته الجديدة ثم فتح الكراسة الخضراء مستعدا للدخول في قراءة القصيدة، و لكن، بدلا عن ذلك، قذف الشاعر عمر الدوش في وجه الجمهور بضحكة مدوية و ممتدة ومن بين اصداء ضحكته قال :-

(( معليش يا اخوانا، بدل أجيب الكراس الفيهو القصيدة جبت الكراس الفيهو ديون الدكان ، يلا الله )).

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.