السودان … حصاد الفشل السياسي
السودان … حصاد الفشل السياسي
بقلم: عثمان قسم السيد
يحكى أن في ستينيات القرن الماضي كان رئيس الوزراء السودانى الأسبق في عهد الرئيس النميرى الأستاذ الرشيد الطاهر بكر (1976–1979 ) حاضرا في إحدى المناسبات الاحتفالية، وكان أحد الحاضرين صحفيا شابا ينتمي إلى الحزب الشيوعي السوداني، وكان ناقدا في مقالاته لمواقف الرشيد وسياساته، وعندما تعرف عليه سأله عن دوافع انتقاده اللاذع؟ ثم رفع الباشا، كما كان يلقب الرشيد ، كفيه إلى السماء قائلا “اللهم أشكو إليك زعاطيط السياسة!” ينقل هذه الرواية أستاذنا الصحفى الراحل محجوب محمد صالح والتي كانت إحدى عناوين مقالاته الصحفية.
ورغم أن المراهقة السياسية في السودان بقيت صفة متلازمة في سلوك قوى السلطة والمعارضة على حد سواء، إلا أن استحضار هذه الحكاية له مغزيين: الأول، تعالي الباشا الرشيد الطاهر على النقد، والبحث عن دوافعه بدلاً عن مناقشة واقعيته، وبقينا نتوارث هذه الإشكالية. والثاني التفكير المأزوم لدى الزعامات السياسية في السودان التي تنظر إلى الأجيال الصاعدة بأنها لا تعرف شيئاً عن السياسة ولا تعرف خفايا وأبعاد المواقف السياسية. ويبدو أن تغير الأزمان والأحداث لم يكن مؤثراً في تجاوز هاتَين المعضلتَين في العلاقة بين الجمهور والسياسي. ففي السودان اليوم نعيد نفس الأخطاء التي تراكمت في العهد الديمقراطي بعد خروج المستعمر 1956 والتي كانت السبب الرئيس في تهيئة الظروف المناسبة لنهاية تلك الحقبة من الحكم على يد العسكر.
وبعد حرب أبريل الملعونة انعكست ملامح أزمة الراهن والواقع السياسي في السودان -التي باتت أكثر وضوحا الآن- في قناعات أحزاب السلطة والعسكر وقوى النفوذ وأحزاب الفكة وقوى الحرية والتغير، التى ترى أن خسارتها بالفترة الإنتقالية لم تأت نتيجة لسوء إدارتها لإدارة الدولة بقيادة حمدوك، ولا لضعف مرشحيها بالحكومة، ولا لمعاقبة الشعب السودانى لها برفض الوقوف خلفها ودعمها ومساندتها لها، وإنما هي نتيجة لتآمر داخلي وخارجي من أعوان النظام السابق وتامر حركات دارفور والعسكر ضد أحزاب قحت.
لا تريد القوى السياسية التي خسرت حكومتها الإنتقالية بقيادة عبدالله حمدوك الاعتراف بأن الخسارة هي حصاد للمراهقة التي طغت على سلوكها ومواقفها في العمل السياسي منذ 2019 حتى قبل خمسين عاما من نشأة أحزابها. وقد تبدو صفة المراهقة السياسية عبارة ملطفة للواقع المأسوي الذي وصل إليه السودان على يد هذه النخبة الحاكمة والتي ضاعت على يدها كل ملامح الدولة، وساد غياب القانون وطغيان الفساد والفوضى والحرب. فهذه النخبة نفسها وبإشراف وتعاون العسكر كالبرهان وحميدتي وياسر العطا هم من عطلوا الدستور في 2019 وخلقوا ما تسمى “بالوثيقة الدستورية ” المشؤومة لكنهم هم أول من عملوا على التجاوز على نصوصه ومبادئه! وهي أنفسهم من دمروا المؤسسات السياسية وحولها إلى بورصة للمتاجرة بالمناصب العليا بالدولة! وعملوا على ترسيخ الفَجوة بين الحكومة والمجتمع بعد أن جعلت وظيفة الحكومات ضمان تقاسمها لغنائم السلطة وموارد الدولة. وعملت على إضعاف المؤسسات التي يمكن أن يثق بها المواطن لحمايته من قوى السلاح المنفلت إلى أن وصلنا إلى هذا الدرك السحيق.
ورغم كل هذا الخراب ترفض الاعتراف بالفشل، وهنا قد يعترض بعض ويقول بأن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 الماضي لم تعاقب كل القوى السياسية التي كانت ولا تزال شريكاً بالفشل السياسي؟ نعم، هذا صحيح تماما، لكن تجربة البلدان فى التحول الديمقراطي لا يمكن مقارنتها بتجارب السودان في الديمقراطيات الناضجة. فالحروب في دولة هشة مثل السودان تعبر عن توجهات الأنظمة الشمولية والإسلامية والطائفية للسيطرة على مقاليد السلطة والحكم عبر ازرعها واتباعها بالأجهزة النظامية.
وبنية النظام السياسي السودانى قائمة على تقاسم السلطة وفق تلك التقسيمات والتقاطعات وليس بناءً على البرنامج والإنجاز السياسي. بيد أن خسارة عناوين سياسية كان لها حضور وفاعلية في المشهد السياسي طوال السنوات الماضية يعني درسا جديدا للقوى السياسية ويجب أن تتعلم منه وتحذر من تكرار أخطائه.
وترفض زعامات قوى السلطة التقليدية كحزب المؤتمر الوطنى المحلول والأمة وحزب الديمقراطى والشيوعي والمؤتمر السودانى والبعثيين وكل قيادات الأحزاب السودانية التفكير بطريقة المعادلة المقلوبة، أي التفكير باعتبارهم مواطنين وليسوا زعماء. إلا إذا غادروا قصورهم الفارهة وحاشيتهم وأفواج الحمايات وجربوا النزول إلى الشارع حالهم حال المواطن البسيط الذي يسكن العشوائيات ويشهد الإذلال في مراجعة أي دائرة حكومية ويقف عاجزاً أمام ضياع مستقبل أولاده بعد أن أنفق سنوات عمره لإكمال دراستهم وحصولهم على الشهادة الجامعية، وبالنتيجة لا يجدون فرصةَ عمل قادرة على ضمان عيشهم بكرامة. وكذلك إذا جربوا العلاج في المستشفيات الحكومية( دمرت تماما خلال الحرب ) التي من يدخل بحثا عن الشفاء يخرج منها محمولا على الاكتاف لمثواه الأخير! لو فعلوا كل ذلك قد يلمسون شيئا من معاناة حياة المواطن.
“”وهكذا لا تريد الطبقة السياسية وزعامتها مغادرة الصفقات والتوافقات التي أنتجت الفشل السياسي، هذا الفشل الذي يدفع فاتورته المواطن السودانى من دمائه وأملاكه ومؤسساته الخدمية””
ملامح الفشل السياسي السودانى باتت واضحة ولا تحتاج إلى دليل أو قرينة، والمشكلة باتت في الإصرار على الاستمرار بالفشل وإعادة إنتاج مغذياته! إذ بدلاً من التفكير بالحلول للأزمات يريد الفرقاء السياسيون ابقائها والاستثمار فيها، والتلويح بأن الخسارة لطرف سياسي ما، سواء أكانت في الحرب أو في دوائر النفوذ، تجعل خطاب التحذير من حرب أهلية حاضرا؛ والمساس بالمكتسبات السياسية التي تأتي نتيجة للصفقات والتوافقات تجعل خطاب التلويح بـ(رسم الحدود بالدم) حاضرا!
ختاما
هذا التفكير الذي يقدم خطاب التصادم على خطاب التسويات السياسية والاحتكام إلى الوثيقة الدستورية الإنتقالية، لا يمكن له إلا أن يبقي السودان تحت وصاية وسيطرة النخب السياسية والعسكرية التي فشلت في الانتقال من المراهقة السياسية إلى النضوج السياسي !!
osmanalsaed145@gmail.com