الأم في السينما المصرية
الأم في السينما المصرية
بقلم: ناصر عراق
من غرائب السينما المصرية أنها ظلت أكثر من عشرين سنة -منذ إنتاج أول فيلم- لا تهتم بأن تكون كلمة (الأم) ضمن اسم الفيلم!
صحيح أن شخصية الأم حاضرة في كثير من الأفلام التي أنتجت في تلك الفترة، إلا أنه حضور نمطي باهت أو غير مؤثر.
(في بلاد توت عنخ أمون) هو أول فيلم مصري أخرجه الإيطالي فيكتور روسيتو وعرض عام 1923، أما أول فيلم استخدم كلمة الأم في عنوانه فهو فيلم (الأم) وقد أخرجه عمر جميعي ليعرض في 3 ديسمبر 1945،
وهو الفيلم رقم 221 في تاريخ السينما المصرية وفقًا لموسوعة (دليل الأفلام في القرن العشرين) التي أعدها صديقنا الدؤوب الناقد والمؤرخ السينمائي الأستاذ الكبير محمود قاسم.
أي أن أكثر من 22 سنة مرت دون أن تلتفت السينما إلى ضرورة أن يكون للأم نصيب أكبر من اهتماماتها. لماذا؟
سأشرح فكرتي في السطور الآتية:
أنت تعلم أن المصريين القدماء وضعوا الأم في أكرم ركن، حيث تظهر في عشرات اللوحات والتماثيل بوصفها كائنا مميزا يكاد يقترب من الآلهة بكل قداستها ونورانيتها،
وتعلم أيضا أن السينما بشكل عام فن يخاطب الشباب في المقام الأول، الذين يمتلكون ثمن التذاكر ويرتادون السينما بشغف،
الأمر الذي يجعل صناع السينما مشغولين بمناقشة قضايا الشباب ومشكلاتهم أكثر من طرح قضايا أمهاتهم وآبائهم،
وتعلم كذلك أن المرأة المصرية لم تعرف الطريق إلى العلم والعمل إلا بعد ثورة 1919، حيث بدأ المصريون يدركون القيمة الكبرى لتعليم المرأة، وضرورة أن تشارك في بناء مجتمعنا الحديث بعلمها وعملها.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939) وتنامي معدلات الفقر والحرمان في مصر، في مقابل تراكم الثروة في جيوب حفنة من الباشوات وحلفائهم،
الأمر الذي دفع الأم إلى العمل للإسهام في تسيير شئون البيت، خاصة أن كثيرًا من الرجال قد فقدوا وظائفهم أو هجروا زوجاتهم وأسرهم، فاضطرت الأم إلى العمل والاحتكاك بالمجتمع والاشتباك مع أشراره وطيبيه،
وهكذا بدأ الاهتمام السينمائي بالأم يتزايد من عقد إلى عقد حتى صارت تحتل مساحة كبيرة في كثير من الأعمال السينمائية فيما بعد.
علوية جميل
الغريب أن الفيلم الثاني الذي احتلت فيه كلمة (الأم) جزءًا من اسم الفيلم كان (الأم القاتلة/ عرض في 11 فبراير 1952)،
ولأنه عنوان غريب ومثير، فالأم هنا اضطرت إلى قتل الراقصة التي أفسدت أسرتها أو كادت! أخرج الفيلم أحمد كامل مرسي ولعبت بطولته علوية جميل وتحية كاريوكا وشادية ومحمود المليجي.
تخصصت علوية جميل في دور الأم القاسية.. ذات القلب الجامد، المستبسلة في الحفاظ على تقاليد طبقتها الأرستقراطية وأعرافها، فهي أهم ألف مرة من تحطيم قلب ابنها (تذكر فيلمها طريق الأمل لعز الدين ذو الفقار الذي عرض في 28 نوفمبر 1957)،
وقد تقمص الأدوار الرئيسية شكري سرحان وفاتن حمامة ورشدي أباظة وزهرة العلا. ويبدو أن الملامح الحادة للسيدة علوية قد أغرت صناع السينما بإسناد دور المرأة العنيفة/ الشريرة/ عديمة الرحمة إليها.
فردوس محمد
ما من أحد إلا وبكى غير مرة حين رأى فردوس محمد تدعو لابنها في مشهد من المشاهد، أو تحنو على ابنتها في لقطة من اللقطات،
فهي حنان الأمومة عندما يسيل على الشاشة، فقد وُهبت ملامح هادئة مريحة.. حاجبان مقرونان.. نظرات وديعة.. راضية.. قانعة بقضاء الله.. بنية جسدية ممتلئة مثل كل الأمهات المصريات في خمسينيات القرن المنصرم، علاوة على صوت حنون دافئ يشع بالطيبة والرحمة.
لكني سأحيلك إلى بعض مشاهدها الفاتنة في أفلام (شباب امرأة/ 1956)، (الأخ الكبير/ 1958)، (حكاية حب/ 1959)،
في الأول تذكرها وهي تبيع بقرتها الوحيدة من أجل أن توفر لابنها مبلغا من المال يعينه على الحياة في القاهرة، وأنصِت إلى نبرات صوتها الحنون وهي تعاتب شكري سرحان، لأنه قال لها إن بيع البقرة خسارة، فخبطت بيدها صدرها وهتفت:
(خسارة.. ده انا لو لقيت حد يشتري روحي، كنت أبيعها وأديهالك يا إمام).
في الفيلم الثاني تأمل كيف تدعو لابنها أحمد رمزي أن يوفقه في دراسته، ولابنها الكبير فريد شوقي أن يسامحه الله، لأنه يتاجر في المخدرات.
إنها ترفع دعواتها بعد أن أدت الصلاة، ورعشة خفيفة تعتري صوتها، وحسرة غير مرئية تطل من عينيها على ابنها الكبير.
إنه مشهد يكشف براعة هذه السيدة في تقمص حال الأم (هناك من يقول إنها لم تنجب أصلا).
أما في (حكاية حب)، فراجع تعبيرات وجهها -وهي العمياء في الفيلم- ويدها التي اعترتها رعشة حين سمعت في الإذاعة أن ابنها عبد الحليم يجري عملية خطيرة الآن، ثم هتفت بحس مجروح.. ملهوف.. حائر (ابني.. يا رب.. يا رب) وهي ترتجف وتضع راحتيها على صدرها!
أمينة رزق
أظنها أفضل من قدمت الأم بحنانها وشدتها.. بكبريائها.. وكفاحها.. بذكائها وحكمتها.
في (بداية ونهاية/ 1960) تجبرها الظروف التعسة على قيادة أسرة فقيرة بعد الموت المفاجئ للأب،
وتحاول السيطرة على أبنائها الذكور فتنهر فريد شوقي وتضرب عمر الشريف وتوبخ كمال حسين، ثم تتغير لهجتها وتلين حين تعاتب ابنتها سناء جميل، لأنها فتاة غير جميلة من جهة ولأنها تسهم بنصيب في إعالة الأسرة من جهة أخرى.
هذا التباين في الأداء يكشف عبقرية أمينة في دراسة الدور الذي تلعبه دراسة جادة!
أنت تعلم طبعًا أن أمينة اقتحمت عالم السينما قادمة من المسرح، فهي أنجب تلميذات فرقة رمسيس التي أسسها يوسف وهبي وقدمت أول عروضها باسم (المجنون) في 10 مارس عام 1923.
لذا يشي أداؤها دومًا بنكهة مسرحية تخفت وتعلو حسب المخرج، فإذا كان المخرج ممن يقدسون الفواجع والميلودراما، اتسم أداء أمينة بحس مسرحي لا يخطئه المشاهد (بائعة الخبز/ 1953) مثلا،
أما إذا كان المخرج صاحب منطق واقعي، غير مسرف في صب المشاعر الزاعقة على الشاشة، ذاب أداؤها المسرحي في ظلال الصور والإضاءات (بداية ونهاية/ 1960) على سبيل المثال.
عاشت أمينة حتى شبعت من الأيام، فقد ولدت عام 1910 ورحلت في 2003، وظلت طوال هذه الفترة تمنح جمهورها أدوارًا بديعة ومشاهد ممتعة، رغم أنها لم تنجب ولم تتذوق لذة الأمومة أبدًا.
آمال زايد
(أمينة) أشهر أمهات السينما المقهورات من قبل رجل طاغية متغطرس، لكنها راضية بالقهر، مستمتعة بالمذلة، قانعة بأن الله في السماء والرجل في الأرض،
لأنها كانت تعبر عن عصر الحريم بكل موبقاته، ذلك العصر الذي فرض على المرأة الثلاثي البغيض: الجهل والفقر والمرض،
ولما كانت رواية (بين القصرين) تصور أحوال مصر في عام 1918، أي في نهايات عصر الحريم، فإن آمال زايد نجحت ببراعة في تجسيد دور المرأة المقتنعة بتقاليد ذلك العصر وثقافته،
فهي الأم الحنون التي ترتعب من رجلها إذا هلّ، لكنها لا تقوى على فراقه ولا تتحمل غضبه، فأمرها بين يديه، ومستقبلها تحت جناحه، لذا فهي تنصاع لرغباته راضية مرضية.
تذكر (آمال زايد) وهي تخاطب السيد (يحيى شاهين) في أمر خطبة فهمي، أو وهي تطلب العفو منه، لأنها خرجت دون إذنه ملبية رغبة روحية دفينة في زيارة (سيدنا الحسين)!
أظنك لاحظت نظرات عينيها المرتعبة، ونبرة صوتها المرتعشة، وخطواتها المرتبكة في الفيلم الشهير،
كما تابعت حنانها المنسكب على أبنائها، ورقتها البالغة في تدليلهم. وقد أسهمت قسمات وجهها المسالمة في تعزيز شعورنا نحو هذه الأم الرؤوم، فالجبين منبسط والعينان هادئتان، والذقن طويل يوحي بالطيبة، حتى لا نقول السذاجة، أما صوتها فمترع بالمحبة والدفء.
إنها نموذج ناصع المثال للمرأة المصرية في نهايات عصر الحريم!
فاتن والأخريات
مع اندماج المرأة المتعلمة بصورة أكبر في سوق العمل بعد ثورة 1952، انتبهت السينما إلى المشكلات التي تواجه الأم الموظفة،
ولعل فيلم (إمبراطورية ميم) أحد أهم الأفلام التي رصدت هذه المشكلات، وقد برعت فاتن حمامة في اقتناص الحالة النفسية لامرأة عاملة وأم لستة أبناء ذوي ميول وطباع مختلفة.
كذلك قدمت سعاد حسني دور الأم لطفل في (غريب في بيتي)، وقبلهما أسعدتنا تحية كاريوكا وهي (أم العروسة) في الفيلم الشهير، أما هند رستم فأسالت دموعنا غير مرة بعواطفها المتقدة تجاه ابنها حسن يوسف في فيلم (الحب الخالد).
لقد كانت الأم وستظل مَعينًا لا ينضب لكثير من صناع السينما الجادة والممتعة، ولعلنا نعاود الإطلال مرة أخرى على (سينما الأم).
وكل عام وجميع الأمهات في صحة وسعادة وراحة بال.