آخر الأخبار
The news is by your side.

اسس تشييد الدولة المدنية الديمقراطية (1)

الادارة الهندسية للديمقراطية ( هندسة الديمقراطية)

اسس تشييد الدولة المدنية الديمقراطية (1)

بقلم: د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

بينما انا اضع قليل من معجون السواك فى فرشاة الاسنان، بقدر لايزيد عن “حبة الفاصوليا” كما تعلمنا من الانجليز .. تأملت مليا صورة الفواكه والازهار المرسومة على انبوبة المعجون والتى تدل على انه مصنوع من فاكهة وازهار برية طبيعية، جعلتنى اشعر بالراحة ..و”عذوبة” صباحية. بانى فى امان، بعيدا عن الكيمائيات التى اصبح كل العالم يربط بينها والامراض الخطيرة التى تفتك بالانسان، مثل السرطان وغيره.

عندها قفزت الى ذهنى الاخطار التى تحيط ببلادنا احاطة السوار بالمعصم..ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

♤ الانقلابات العسكرية التى تجد لها كثير من المؤيدين لاسباب عديدة اهمها ضعف الثقافة الديمقراطية، وبالتالى اهمية الديمقراطية للتنمية والتقدم.

♤ ظاهرة المليشيات المسلحة التى تقودها اسر واحزاب، بعقائد ومفاهيم مختلفة، ومنهم المرتزقة الذين يحاربون من اجل المال.

♤ فقدان المنظومات العسكرية للتدريب والتأهيل على أسس وطنية، ومعظم الكوادر قد جاءت من رحم ايدلوجيات وتدين لها وتتبعها اكثر من الوطن.

♤ تأتى أكبر العيوب والثقوب من التربية الخاطئة والمناهج الدراسية ..التى شكلت ثقافة المجتمع ومفاهيمه..
والمنظومات السياسية من احزاب وغيرها هى نتيجة تلك الثقافات/ التربية والتعليم، لذلك لم تتطور ولم تتقدم لأن فاقد الشئ لا يعطيه.

عند التفكير مليا فى الامر برزت فى ذهنى ” الهندسة الادارية”، فان كافة العلوم تتكامل وتتلاقح عندما نتحدث عن:

{ دولة النظم والمؤسسات }

أقرب الموضوع الى الاذهان اكثر عبر مثال بناء منزل للسكن..فان الوضع الطبيعى هو ان نحفر الاساس ونتأكد من متانة الارض ونوع تربتها، ومن ثم نحدد عمق الاساس وبالتالى نوع المواد التى يجب ان نبنى بها ..

وهكذا تستمر العملية بالنسبة للجدران، وتحديد امكنة النوافذ والابواب مع حسبان عوامل عديدة منها الشمس وتيار الهواء وايضا الامطار.. وطبيعة/ بيئة المكان من مناخ وغيره .. وبنفس المفهوم نحدد المواد التى سوف نستعملها فى صناعة النوافذ والابواب ..وصولا للسقف ..

فمثلا ان اهلنا فى اقصى الشمال كانوا يستعملون جريد النخيل بعد ” غمسه” اياما فى مياه نهر النيل وعمل حساب لحشرة ” الارضة” وكافة الافات ..فان الاساس، الجدران، الابواب والنوافذ ومن ثم الارضيات كلها نتعامل معها وفقا للمخاطر الانية والمستقبلية ومن ثم تتكامل وتتلاقح عدة فروع من العلم والمعرفة ابرزها ما يسمونه

ادارة المخاطر Risks Management

ولكم ان تتخيلوا انه يتم حساب كل ذلك ان كان المنزل المراد تشييده قطية من قش او بناء اسمنتى مسلح..فان الكل يحسب نسبة الامان وملائمة الطقس صيفا وشتاءا، والاقتصاد او المقدرة المادية…
وهنا يبرز العلم الذى اجد فيه نفسي وهو ادارة الجودة ( ام العلوم):

Quality Management

والجودة تعنى ليس فقط الامتياز /الجيد، وانما تعنى حسب رائد علم الجودة جوران Juran:

” FITNESS FOR PURPOSE “

اى انها تفى بحاجتك وحسب مقدرتك الاقتصادية وغيرها ..وشرحها بالانجليزية:

* something that is fit for purpose is good enough to do the job it was designed to do.

( European law dictates that goods must be fit for purpose when sold.)

اما رائد علم الجودة كروسبى Crosby فقد عرف الجودة بانها تعنى المطابقة للمتطلبات التى نريدها

“Conformance to Requirements”‘.

نرجع لمثال المنزل الذى نود انشاؤه سوا كان “قطية قش ” او بيت ” جالوص” او بناء مسلح ..فان معنى الجودة يظل واحدا وليس مختلفا ..وهى لا تعنى ان الجودة فى بناء المسلح وليس القطية بالقش؟

فان لكل من يريد تشييد منزل متطلبات معينة ومقدرات اقتصادية ..وحساب لكل شئ حتى البيئة المحيطة، مثل الامطار والصواقع والزلازل، والحيوانات مفترسة ..الخ

هنا ارجع لاحد اهم علماء الجودة ( ام العلوم ) الذين نهلت من علمهم الكثير وهو اليابانى ايشاكاوا Kaoru Ishikawa صاحب التحليل الشهير

Cause-and-Effect Diagram,
Ishikawa Diagram ( Fishbone Diagram).

ولا اريد فى هذا المقال استعراض نظرياته ولكنى اريد ان اتوقف عند اهتمامه بالعوامل البيئية والمصادر الطبيعية وضرورة حسبانها كاحد اهم العوامل التى تؤدى الى الجودة، التى يجب ان لا تأتى على حساب الموارد الطبيعية..

فقد علَّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نقتصد في الماء ونحافظ عليه، فكان يغتسل بالصاع أو يزيد، وكان يتوضأ بالمد ونهى عن الإسراف في الوضوء..
فقد روى أحمد وابن ماجه: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟»، فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ»”.

اذن نخلص من اعلاه ان الجودة لا تقتصر فقط على الفهم الاقتصادى او ما تملكه من مال لتحصل على ما تريد وانما تكون اجابة على السؤال: ماذا تريد ..ولماذا ..وكيف?

وصولا الى التفكير فى كل ما حولك وعدم الاضرار بالبيئة والمجتمع.

فانه لا يمكن ان تبنى منزلك وتتسبب فى حجب تيار الهواء عن الاخرين ..او سد مجرى السيول والامطار مما يسبب الضرر لغيرك ..

كما انه لا يمكن ان ترمى ” نفايات” منزلك او مصنعك فى النهر مما يؤدى الى تسمم المياه، وبالتالى الحاق الضرر بالانسان والحيوان.

ونصل فى موضوع الجودة الى خلاصة هى تخصصى الذى درسته وهو ” تكاليف الجودة “..وتعنى ان نصل الى افضل جودة باقل تكلفة وبدون اضرار بيئية ومجتمعية .. ومن امثلة الاضرار البيئية والمجتمعية: ازالة الغابات وقطع الاشجار، تجريف البحار، الصيد الجائر، التخلص من النفايات الصناعية فى مجارى الانهار، استعمال مواد سامة/مسرطنة فى عمليات التنقيب، وزرع القنابل الارضية.

نرجع لتشييد المنزل ..وقد نتجه لاعمال التشطيب او الديكور بنفس المفاهيم ..وقد نضع على النوافذ ” نملية” تمنع الباعوض والحشرات ..وفى بعض انحاء العالم يعملون ايضا حساب للزلازل كما اسلفت.

فى عملية تشييد المنزل نكون قد عرجنا/ استثمرنا عدة علوم بعلمنا او بغيره ..مثل الهندسة بفروعها ( المدنية، المعمارية، الكهربائية…الخ)، والاقتصاد بكافة فروعه، وايضا الادارة بكافة فروعها ..وعلم النفس والتربية والزراعة وكافة العلوم ..مثلا تخطيط مكان الاشجار وزريبة المواشى/قفص الطيور ..

كم عندك من اطفال ذكور واناث وهل تفكر الان او مستقبلا فى غرفة لكل على حدة..
وايضا تدخل معتقداتك مثل باب للرجال واخر للنساء..

وهذا يعنى اننا فى عملية تشييد المنزل فكرنا فى الحاضر والمستقبل ..وايضا مررنا على تجارب ودروس وعبر من الماضى.

مثلا: السنة الماضية مجرى السيل تغير الى هذه النواحى و جرف بيوت قريتنا ..

الى جانب مشاركة واسعة فى التشييد من قبل افراد الاسرة والاهل والأصدقاء، والمختصين فى كافة فروع العلوم والمعرفة ..

واريد هنا ان اتوقف عند تجربة شخصية عايشتها عمليا فى امارة الشارقة ..فانك عندما تريد انشاء منزل شخصى هنالك، تبدأ من مرحلة رسم الخرط وتصديقات المختصين فى البلدية ..ومن ثم مرحلة البناء التى لا تتركها الدولة لصاحب المبنى وشركات خاصة/مقاول ..وانما تتدخل فى كافة المراحل منذ حفر الاساس الى لحظة استلام المبنى كاملا والاشارة بانه جاهز للسكن ..فانه بعد حفر الاساس هنالك زيارة من مهندسى البلدية للمطابقة والموافقة من عدمها لمرحلة وضع الاساس، وهكذا بعده ..واى انشاءات اخرى ولمراحل عديدة، وبرقابة علمية ومنهجية، تراعى كافة متطلبات الجودة وايضا المعايير والمواصفات التى وضعتها الدولة ..وفى كل مرحلة هنالك رقابة ومراجعة من جهات مختلفة لضمان عدم الغش.

صدقونى لقد تعلمت الكثير والمثير من بناء بيتى فى السودان، وايضا استثمرت كافة العلوم التى درستها، واستفدت من تربيتى، فان والدى كان يعمل فى الهندسة المدنية وكنت اذهب معه الى العمل واستمع الى رؤيته فى الخرط والانشاءات واتابع عمله ..
اضافة الى جدتى التى تعمل فى الزراعة ..واعمال امى فى المنزل وخصوصا المطبخ، وتخصصات اصدقائى ومعارفى واهلى ..واسفارى فى جميع انحاء العالم كل ذلك واكثر استثمرته فى تشييد منزلى والذى جاء تحفة جمالية بشهادة حتى مصورى ومخرجى التلفزيون الذين قاموا بتصوير برنامج عديدة بداخله ..

ومنذ يومين وانا اعمل فى تصميم زريبة مواشى وقفص للطيور وبيت للكلب فى منزلى باذربيجان ..وفقا لمعلومات ومخاطر لم ألفها من قبل ..مثل مخاطر هجوم الثعالب والدببة التى تعيش فى الجبال القريبة على الحيوانات ..والطريف هنا ان الدجاج ينام فوق الاشجار!! ومخافة زوجتى من تاثير براز الكلب على الخضروات المزروعة، واحتمال تسرب “القراد” لبقية الحيوانات، ومن ثم ضرورة نظافة الكلب وتطعيمه، وان يكون مسكنه بعيدا عن بقية الحيوانات..
مخاطر جديدة تحتاج حسابات وتصميم مختلف عن الذى عهدته فى السودان ..مما يعنى ان ادارة المخاطر لها ارتباط وثيق بالبيئة.

الان فى اذهانكم الصورة بشكل اتمنى ان يكون واضحا ..
ونتخيل الصورة كاملة امامنا ..
ونريد ان نبنى بيت للديمقراطية فى السودان او كما اطلقت عليه:

◇ الادارة الهندسية للديمقراطية ( هندسة الديمقراطية) ◇

والتى سوف اعتمد فيها على منهج علمى بسيط وهو “الوقاية خير من العلاج”:

ونبدأ الادارة الهندسية للديمقراطية من مرحلة الأساس كما هو الحال فى تشييد المنزل…اعتمادا على:

♡ التنشئة السياسية ( الحقوق والواجبات).

♡ نشر ثقافة الديمقراطية مجتمعيا.

♡ بدء الممارسة / التطبيق للديمقراطية من اسفل الى أعلى وليس العكس.

♡ قيام مؤسسات حزبية ديمقراطية متكاملة فكرا وتنظيما وتمويلا.

● التنشئة السياسية ( الحقوق والواجبات):

وبداية الطريق تكون بالمناهج الدراسية منذ مرحلة رياض الاطفال ..
وتعليم وتدريب التلاميذ على الممارسة الديمقراطية والادارة ..
على سبيل المثال: كيفية ادارة الاجتماعات ..
وكيفية ادارة الزمن Time Management
وتعلم اهمية الزمن ..
ولدينا كتيب صغير اسمه ( الطريق الى البرلمان )، قام بتأليفه الرئيس الراحل اسماعيل الازهرى قبل نحو اكثر من نصف قرن، ويراه صديقى د. معتصم احمد الحاج بانه اهم كتاب تربوى فى تاريخ السودان الحديث.

وايضا تدريب وتأهيل المعلمين ..
وتثقيف الاباء والامهات عبر وسائل الاعلام ببرامج يصممها خبراء مختصين.

واشراك التلميذ/ة منذ المرحلة الابتدائية عبر ممثلين لهم ياتون بالانتخاب من بينهم فى مجلس ادارة المدرسة School Council
والذى يتكون من ادارة المدرسة وممثلين للمعلمين واولياء الامور وممثل/ة لكل فصل دراسى ..ويكون هذا المجلس مسؤلا عن شؤون المدرسة. وبالتالى نعلم صغارنا احترام المؤسسات وادارة الموارد وقيمتها وفى مقدمتها الزمن.

يتواصل المنهج التعليمى، والبرنامج التاهيلى والتدريبى الى المدارس الثانوية ومن ثم الجامعات والكليات المتخصصة ومنها العسكرية والامنية حيث يتم تغيير كامل شامل لعقيدتها لتصبح حماية الوطن هى العقيدة الأساسية ..
وان يستوعب الطالب سواء تخرج طبيب او ضابط شرطة او جيش او مطافئ او غيرهم، بانه خادم لمجتمعه ووطنه وليس سيدا عليهم ( سيادتو)، او صاحب المعالى/السيادة!.

● نشر ثقافة الديمقراطية مجتمعيا:

بلاشك بان المدارس والجامعات والكليات التى سوف تتبع مناهج تاصل فيهم ثقافة الديمقراطية، وبالتالى السلوك والممارسة، سوف يصبح خريجيها، رسل/قادة مبشرين بالديمقراطية واهميتها لتقدم المجتمعات ..فى وسط اسرهم ومجتمعاتهم، وبالتالى يساهموا بشكل مباشر فى نشر ثقافة الديمقراطية مجتمعيا..وقيام تنظيمات مجتمع مدنى على اسس الديمقراطية والشفافية ..ونشر مفاهيم مصاحبة مثل المسؤولية والمحاسبية
Accountability & Responsibility

ولعل نموذج ادارة ابرز انديتنا الرياضية من قبل تجار اصحاب اعمال تدور حولهم الكثير من الشبهات يبرز لنا ايضا اهمية التشريعات والقوانين التى تضبط المسيرة الديمقراطية ..

فان المجتمع، بكافة منظوماته من اندية واحزاب وغيرها من منظومات المجتمع المدنى تحتاج الى ثورة فى التشريعات والقوانين تنزل شعارات ثورتنا الى الواقع فى الحرية والعدالة والمساوة .. وتشكل لها وقاية من كافة المخاطر المحيطة بها …

فاننا نحتاج الى قوانين عن تنظيم الاحزاب ورقابة تمويلها وممارستها للديمقراطية ..وقوانين عن علاقة الجيش افرادا ومؤسسات بالسياسة ..الخ من القوانين والتشريعات التى تنظم الممارسة الديمقراطية وتحكمها وتراقبها.

وثقافة الديمقراطية تشمل السلطة الرابعة: الصحافة، واهميتها الكبيرة فى نشر ثقافة الديمقراطية، وهى فى بلادنا اليوم اصبحت سلاح ذو حدين، فان اعداء الديمقراطية يستثمرون اموالا ضخمة، ويستغلون الفقر وغيره من الثقوب،
للمناداة بعودة حكم العسكر ومن ثم الديكتاتوريات بكثير من الحجج وابرزها ضعف الاحزاب ..وهو فى حد ذاته نتيجة لغياب الديمقراطية وليس سببا فى وأدها كما يدعون، ومن ثم يتخذون من الصحافة وبقية وسائط الاعلام وسائل للتجهيل والتخذيل ..بدلا عن التربية والتعليم ..ونشر ثقافة الديمقراطية، التى سوف تؤدى الى كبح جماح سيطرتهم على البلاد ومقدراتها ..

انظر الى اقرب مثال يوم امس القريب حيث اجتمع رجل الاعمال الذى تصاحب مسيرته الكثير من علامات الاستفهام اشرف الكاردينال بكيانات عديدة ادعت تمثيلها لشمال السودان ومن ثم احقيتها فى نصيب من السلطة والثروة ..واقيم ذلك الملتقى بصالة فى افخم فنادق العاصمة، وساهمت فيه وسائل صحافة واعلام مملوكة لهؤلاء التجار او ” لمن يدفع اكثر” ..وهنا تبرز خطورة الصحافة فى الحد من نشر ثقافة الديمقراطية ..بل وتذهب الى ابعد من ذلك فى حملة التجهيل عبر اظهار الممارسات المخالفة تماما للديمقراطية ..بانها قمة الديمقراطية ..لذلك فاننا قدمنا فى المرحلة الاولى ضرورة تعلم الديمقراطية، بداية من رياض الاطفال والمدارس.

فى الحلقة القادمة سوف استعرض كيفية/ اليات
بدء الممارسة / التطبيق للديمقراطية من اسفل الى أعلى.

ومن ثم كيفية قيام مؤسسات حزبية ديمقراطية متكاملة فكرا وتنظيما وتمويلا.

د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

استشارى ادارة جودة وتكاليف

خبير ادارة وحوكمة

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.