أمنا دلقو قمة القمم.. أنور محمدين
أمنا دلقو .. قمة القمم
أنور محمدين
كنا في برندة مكتب بريد دلقو حين أبرق عمنا متولي أرو الملك فيصل محييا موقفه في حرب 1973 عن ملوك المحس السابقين وهو من سلالة مملكة دلقو التاريخية وبذا كان يلقب الملك وحين استدار داعبنا بروحه المرحة:
يمكن يرد بمكرمة!
مكتب البريد يتوسط السوق العريق، الذي نشط فيه بجانب أهلنا تجار مصريون وشوام، آخرهم ” الخواجة ” ميخائيل كما كان يسميه أهلنا، اللبناني الذي كان يسكن مع زوجته سعيدة ” من كرمة ” في الطابق العلوي لمتجره، ومن قلب السوق تنطلق سنويا زفة المولد النبوي، وفي ساحته تنظم احتفالاته بهيجة حاشدة.
أدى تجار السوق دورا مقدرا في تطوير المنطقة .. قطاع التعليم الأهلي أنموذجا بحكم وعيهم ووجودهم معا، بالطبع تكاتفا مع آبائنا الرواد الأخيار على امتداد المحس، وكانوا عند الواجب في استقبال الضيوف رسميين وشعبيين.
على بعد خطوات من السوق مبنى مركز دلقو التاريخي، الذي ادار المحس، بل السكوت والمحس معا في مرحلة بحكم توسطها الجغرافي.
وفيها استقبل الملك صبير ملك الشايقية إسماعيل باشا مرحبا.
بمناسبة مرور قرن على تلك الإدارة نظمت احتفالات الاستقلال المركزية بدلقو 1981 بقيادة محافظ الشمالية مالك أمين نابري، مدير عام شرطة السودان الأسبق حيث بدأ الاحتفال الكبير بكرنفال رسمي وشعبي ثم عزفت فرقة شرطة الشمالية أعذب الألحان في ساحة المركز واتصلت البرامج حتى انتصاف الليل.
بعده بسنوات التقيت نابري في صباح بهي في مكتبة سودان بوكشب في الخرطوم وكان اللقاء الحميم وسؤاله عن البلد والأهل.
غير بعيد عن سارية العلم الذي ظل يرفرف نحو 144 عاما إلى اليوم الاستراحة وموقع مدرسة المحس الأولى 1912، ووقته لم تكن في السودان غير 10 مدارس .. مكانها مكتب البريد الجديد وداخليتها عند بيت عمنا فضل زبير المواجه.
في حلة السوق البيت الذي نشأ فيه أستاذنا عبد اللطيف عبد الرحمن وزير الخدمات في الإقليم الشمالي، أحد قادة جهاز التكامل السوداني – المصري، شاعر أهزوجة السودان الوطنية:
منقو قل لا عاش من يفصلنا
وشقيقه زكي عبد الرحمن النائب العام، أستاذ القانون بجامعة الخرطوم، صاحب السوابق القانونية المرجعية لكل منسوبي القضاءين الواقف والجالس، ثم نصل حلة شخصية قومية ثالثة .. البطل سيد فرح أحد أبرز قادة ثورة 1924، الساعد الأيمن للرمز عمر المختار في ليبيا، مدير سلاح الحدود في مصر، ثم محافظ مرسى مطروح، الذي قادته جذوته الوطنية فيها لإمداد الثوار في فلسطين بالأسلحة وكان دورا فاعلا لم يسلط الضوء عليه بعد. وكنت قد كتبت في جريدة الرأي العام في السبعينيات سيرته وصيرورته في ضوء مجالسته في داره بالقاهرة بعنوان” معظم النار من مستصغر الشرر” وكان من المقالات الأولى التي تناولت قصة حياة مثيرة لفارس سبق عصره، والعنوان مستمد من حكايته أنه تغلب على زميل إنجليزي في شندي في سباق للخيل فاستشاط الخواجة غضبا فتوعد بأنهم سيركبون السودانيين كما يفعلون بالهنود فازداد بطلنا عزما على قتال المستعمرين مدى حياته وقد كان.
نقف بعدئذ بإجلال أمام مسيد الشيخ عبد الفتاح أبو القاسم، الذي تخرج فيه حفظة من مصر والعمق الإفريقي، فضلا عن أجيال البلد وتابع رسالته الشيخ خضر ناصر امتدادا لجهود جدنا همت والد شيخ إدريس همت ولاغرو أن سمي كثير من أبناء دلقو باسمي عبد الفتاح وخضر تيمنا وعرفانا.
يذكر أن أحد خريجي خلاوى دلقو أنشأ حلة في الجزيرة باسمها تقديرا وعرفانا.
من طلائع المتعلمات بدلقو الأستاذة نورة محمد فرح، التي كتبت عن سيرتها في مجلة ” رسالة المعلم ” الدورية بعنوان معلمة المحس الأولى.
خلال السبعينيات اختيرت دلقو مدينة رسميا وأسس فيها مجلس مدينة رأسه عمنا العزيز إبراهيم عبد الرزاق وتوليت موقع نائب الرئيس وكانت تجربة ثرية غير أن نظام مجالس المدن صرف النظر عنه بزوال النظام المايوي في كل السودان.
تقديرا لدور دلقو الرائد ظللت أنعتها في مقالاتي أمنا دلقو ، وأسست قروبا كبيرا يحمله اسما.
ظلت دلقو عنوانا للمحس ومركزا لهم حتى صار اسمها على الألسن ” دلقو المحس ” مترادفا، مقرونا.
عمل بدلقو أفذاذ مثل والد الزعيم محمد نجيب، والقاضي الفاتح البدوي الذي صار رئيسا للقضاء والد د. سعاد الفاتح ود. زينب زوجة شاعرنا د. مصطفى عوض الكريم صاحب ديوان السفير وقصيدة:
سوداننا الحبيب
فداؤه النفوس
عمل فيها كذلك أحمد عبد الله ود سعد ابن زعيم الجعليين في المتمة، مأمورا وتزوج من دلقو وصار ابنه محيي الدين أحمد عبد الله وزيرا في عهد عبود وله كتاب ” كلمتي للتاريخ “.
كان أيام المركز حي
شرطة ” قشلاق ” يحوي بيوتا كثيرة ثم أتى عليه سيل لم يبق منه غير بيت واحد وكانت هناك ساقية الحكومة ومزارعوها منهم والد ناس عكاشة حسنين، الذين زرعوا شجرة دقن الباشا الفواحة أمام الاستراحة والجميزة الضخمة خلف المركز ، التي قطعت كتلا قبل سنين قليلة وكنا نلقط ثمارها وبنا خوف من العساكر.
كثير من أبناء دلقو الشياخة ظلوا مشاعل على صدر الشأن العام، منهم جعفر الحاج، محمد فرح صالح شيخ دلقو زمنا، فضل بشير، محمد أبوعلي، سيف الله محمد أحمد، محمد أبوبكر، إدريس همت، إبراهيم عثمان، العمدة محمد عثمان فرح، محمد علي إدريس، عبد الشافع عبد الرحمن، عكاشة محمد مختار، سيد همت، حاج أحمد فرح .. وتنداح القائمة، حتى الجيل الجديد الطامح الوثاب .
من المؤسسات الحديثة بدلقو مركز الحاجة آمنة إسماعيل للغسل الكلوي بتبني ابنيها الصديقين العزيزين د. سيف نوري ود. ماهر نوري
أجزل الله الثواب
ومركز ترخيص السيارات والشروع في برنامج إنارة الشوارع، والمرتجى إكمال محطة المياه عالية الأهمية.
ستظل دلقو قبلة السودان كله فبجانب مورد الذهب تذهب معلومات إلى أنها مركز اليورانيوم بالبلاد، والأفق ممتد حتى المحطة نمرة 6.
تغزل في مفاتن دلقو شعرا كثيرون، منهم شاعرها الشعبي النقي، الذي يعد عنه كتاب حاليا:
النسيم في دلقو هباب
فيا أمنا دلقو المعذرة فقلمي لا يسعه الإحاطة بكل مآثرك وجمائلك الجلى، التي يذكرها بالخير الفضلاء.
وما أكثرهم
وأنبلهم!
أنور محمدين