آخر الأخبار
The news is by your side.

أسئلة صعبة: الكرمك، أنطونيو غرامشي .. الكوما، والقنزا و أشياءٌ أخرى 

أسئلة صعبة: الكرمك، أنطونيو غرامشي .. الكوما، والقنزا و أشياءٌ أخرى 

بقلم: عبدالعزيز بركة ساكن

حكي لي صديقٌ، وكنّا في النيل الأزرق نتوجه في قافلة صغيرة إلى جنوب نهر يابوس، فيما يُسمي (كوما قنزا) ، وهو الإقليم الذي توجد به الأصول القبلية للرئيس الأثيوبي السابق منقستو هيلي ماريام.
كان المشوار طويلاً ولا توجد طرق معبدة إلى هنالك، ولكنّنا نصر علي الوصول إلى تلك المنطقة شبه المقفولة مهما كلف ذلك. حيث ان نهر يابوس الذي لا يوجد به سوي جسر من الحبال للمشاة يظل ممتلئً بالماء المنحدر من الهضبة الإثيوبية لمدى تسعة أشهر في السنة، ولا يمكن ان يُعبر مخاضة بالأرجل أو السيارات إلاّ في فيما بين اواخر ديسمبر إلى نهايات مارس – أي أنّنا لكي نبني مدارس ووحداتٍ صحيّة في تلك المنطقة علينا العمل في فترة زمنية قصيرة جداً من السنة.

تبعد المنطقة 186 كيلو متراً عن الدمازين، ولكنّها تحتاج لمسيرة يوم كامل بطرق غير معبدة في الظروف الطبيعية. اي – إذا كانت الطريق سالكة وليس هنالك بعض العوارض البشرية، مثل ان يوقفك جندي في نقطة صغيرة ويطلب منك تصريحاً للمرور يبتكره في حينه.
وقد كنّا نعالج هذه المشكلة بان نأخذ معنا أحد المسؤولين في الرحلة – ولكن أيضاً قد تجد عربة متعطلة في ممر واحد ضيق لا بديل له.
هذا يقودنا إلى البحث عن طريق أخر قد يستغرق الساعات، واذا لم يكن في صحبتنا سائق خبير في متاهات غابات ووديان النيل الأزرق، مثل غازي عبد الحي، قد يستغرق الطريق يوما إضافياً – لذا كما يقولون الرفيق قبل الطريق، والمؤانسة هي زادنا.

كان مواطنو (الكوما والقنزا) جنوب نهر يابوس، فقراء بموازين المدنية، ولكنهم أغنياء بموازين فن الممكن والطبيعة من حولهم. حيث يعتمدون في حياتهم اليومية، علي هبات الطبيعة. الماء من بئر سطحية تحت جبل (دوقابلي) الشاهق المتوحش، يردونه نهاراً وترده الوحوش ليلاً، إلاَّ فيما ندر يلتقي الجمعان، وحينها يتراجع المواطنون إلى أن يكتفي الوحش من الماء ويمضي في سبيله ثم يأتي دورهم.
إتفاق غير معلن، ولكنه مطبق حرفياً، اي تجاوزات قد تؤدي إلى كارثة.
يتعالجون من جذور وبذور الأشجار، وهنالك السحرة الكجوريون للحالات المعقدة، كما يوجد إله الخصوبة تحت شجرة “ابنقوي”، يستعين به من أراد بسطة في ذريته. يزرعون الفول السوداني وهو الوجبة الرئيسية لديهم. أما خضارهم فهو صفق الأشجار، الأعشاب الموسمية، بعض اللحاء وجذور شُجيرات البامبو اليانعات النابتة حديثاً، وغيرها مما تجود به الطبيعة، أما دخلهم الأساسي من بيع وقطع البامبو الذي يشتريه تجار من الدمازين او غيرها ويصدرونه لبقية مُدن السودان، وأهمها مدينة القضارف التي تعتمد في معمارها عليه. اذ يعتمد الناس هنا علي الطبيعة وحدها.

سياسياً، يعرفون رئيساً للسودان واحداً فقط، وهو الرئيس ابراهيم عبود. يقولون انه زارهم ويتذكره كبار السن منهم، ويسألون عن صحته.
أول مسؤول يأتي لهذه المنطقة رسمياً بعد عبود، هو شخصي الضعيف، وقد أكون الأخير لسنوات كثيرة قادمة.

فيما قبل إتفاقية السلام، وبينما كانت الحروب الطاحنة دائرة ما بين الحركة الشعبية بقيادة المرحوم (جون قرن دي مبيور)، والحكومة المركزية في الخرطوم. فكر قادة الحركة الشعبية بالاستفادة من العنصر البشري الكائن بكوما قنزا في الحرب كجنود. حيث يتصفون ببنية جسمانية قوية ومعرفة بالمكان، وقوة علي التحمل نادرة.
حكي لي الصديق ما حدث:
” جاء قادة ميدانيون علي مستوي رفيع للمنطقة، وإجتمعوا ببعض الشيوخ وقادة المجتمع من قرية (دُوقا بلي) من بينهم الشيخ عُويصا، ولكن قال لهم الشيوخ:
خلونا نستشير بقية الشيوخ بالمنطقة ونأتيكم بالرأي السديد بعد يومين.
وأعطوهم بعض القطاطي للإقامة، وأرشدوهم لمصدر المياه و”سيوبر ماركت” الغذاء وهو الطبيعة، ولم يكن ذلك غريباً لقادة الحركة الميدانيين. حيث أنهم يرتادون ذات السوق. بعد يوم جاءوا في الوقت المحدد. ورشحوا أكبرهم لمخاطبة قادة الحركة، فسألهم الشيخ:
– لماذا تريدون منّا ان نحارب؟.
فشرح لهم القادة بلغة بسيطة قضايا التنمية غير المتوازنة وإشكاليات المركز ونظرية السودان الجديد، وتعقيدات الهُوية، وغيرها من برامج ومنطلقات الحركة النظرية والميدانية.
فسأل الرجل بعد ان فهم جيداً
-هل ستوقف حكومة الخرطوم المطرة؟
قال له متحدث الحركة:
-لا بالطبع.
– هل ستمنع القنا أن ينبت والأشجار والعشب؟
قال متحدث الحركة:
– لا.
فقال الزعيم القبلي مبتسماً:
– إذن، لماذا نحارب الحكومة، وهي ما اخذت منّا اية حاجة؟
ذكرتني تلك القصة عندما خطرت في بالي مقولة الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي (1891-1937)
” أن جميع الناس مثقفون بطريقة معرفية أو بأخرى، ولكنّهم لا يملكون الصفة الإجتماعية الرمزية للمثقفين”
وفي توصيف آخر:
كل الناس فلاسفة، لا نستطيع ان نتصور إنساناً لا يكون فيلسوفاً ، ولا يفكر لأن التفكير هو بالضبط خاصة الإنسان من حيث هو إنسان” او كما قال.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.