آخر الأخبار
The news is by your side.

خوجلي عثمان: مطالبة بفتح ملفه قضائيا؟  … بقلم: صلاح شعيب

خوجلي عثمان: مطالبة بفتح ملفه قضائيا؟  … بقلم: صلاح شعيب

بينما تشرع جهات كثيرة لإعداد ملفات التقاضي ضد رموز النظام البائد ينبغي أن يحضر بعض الفنانين أنفسهم – أو نقابتهم – لكشف ذيول جريمة مقتل الفنان الغرويد خوجلي عثمان، والتي روعت البلاد في النصف الأول من التسعينات بتلك الطريقة الشائنة. وقد نشرت الكثير من الإفادات، غير المستقصية، عن دور بعض رموز النظام في هذه الجريمة النكراء التي هدفت إلى إخفاء معلومات مهمة عن محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في إثيوبيا. ذلك بحسب ادعاء بعض الكتاب أن الفنان كان يعلم بها.
وأيا كان فحوى هذه الإفادات المنشورة أثناء فترة التقاضي السابق – وبعدها – فقد أتيحت الفرصة الآن لأهل الدم لتجديد التقاضي الذي يعيد أمر ذلك التآمر ضد الفنان إلى ساحة العدل. فما نعرفه أن الجاني لم يحاسب بدعوى أنه مختل عقليا، وهكذا قفل الملف الحساس. ولكن ظلت الشائعات تحاصرنا من كل حدب، وصوب، ومؤدى بعضها أن الفنان كان يعرف شيئا من ما جرى في مؤامرة اغتيال مبارك، ولذلك قصدت جهات أمنية بعينها إسكات صوته بكلفة عالية. أي بالطريقة التي تهجم عليه أحد المهووسين في ليلة حزينة بنادي الفنانين، إذ طعنه في خاصرته فسقط مضرجا بدمائه في يوم الخميس العاشر من نوفمبر ١٩٩٤.
لقد فجعت أكابر النخبة باغتيال الفنان الصبوح الذي كان يزين جلساتها الودية، وكذا هو خوجلي لا يبقى إلا فتى مليح الدندنة في مجالس امدرمانية للسمر يسقيها من فيض روحه المرحة، ويسليها بصوته، ورقته، ونكاته. وقد رثاه حينذاك الدكتور منصور خالد قائلا: “النبأ المفزع الذي هز أهل السودان منذ بضعة شهور عاد بي إلى زمان ليس بالبعيد. كنت وصحاب لي نختلس فيه البهجة اختلاساً من هموم الحياة ، نصقل قلوبنا حتى لا تصدأ. وكان خوجلي عثمان واحداً من أهل المغنى الذين يملأون تلك السويعات التي نَستَّرِق متعة وحبوراً. من هؤلاء الصحاب من ذهب إلى رحاب ربه راضياً مرضياَ ومنهم من ينتظر. ذكرتهم جميعاً يوم نعي خوجلي؛ ذكرت علياً وعلياً، وذكرت عثمان وعثمان، وذكرت الأمير الغني، وذكرت الملك حفيد الملوك حسن محمد صالح؛ ثم ذكرت بشيراً الذي يستبي تعزافه القلوب. وكان ذكي الفؤاد علي المك (أحد العليين) يطلق على خوجلي عثمان لقب زرياب..”. ولكن زريابنا الذي طورت ريشته ضرب العود، واستحسن توليف أنغامه، وتحليتها، مات مغدورا وفقدته مجالس الأنس، والبهجة، وود الصحاب.
لقد تناولت الصحف جميعها حينذاك ذيول تلك الجريمة البشعة. وتوقعنا أن القضاء سيقتص ضد هذا الإرهاب الفني الذي بدا من على سطح الحادثة معرفا بمرجعيته المهووسة ايديولوجيا. ولكن ما مر عام إلا وقد أفادت السلطات حينها أن خوجلي راح ضحية من ذهبت عقله، وقفلت القضية مخافة الحرج السياسي. بيد أن مصدرا قال لنا الآن إن الشخص الذي قتل خوجلي “ليس معتوها كما روج لذلك وإنما هو شخص موتور دينيا مثله مثل الكثيرين الذين أنتجتهم آلة النظام..وقد ازداد عددهم وتجمعاتهم مع مرور الأيام إلى أن بلغت أعدادهم الآلاف وكل الاحداث التي قاموا بها تؤكد أن النظام كان يرعى أمثال هؤلاء المتطرفين”. وأضاف المصدر، وثيق الصلة بالتحريات الجنائية، بقوله: “قاتل خوجلي عثمان ترك مذكرة لزوجته وكتب فيها الآتي: “أنا خارج مجاهدا في سبيل الله وإن لم أعد فعليك بتربية الابناء علي النهج الإسلامي” ..فهل هذا مجنون. إنه الفكر الإرهابي نفسه الذي صنعته الإنقاذ قصدا، وأوجدت له البيئة والحاضنة التي ترعرع في كنفها بل وفتحت أبواب السودان لكل تنظيماتهم العالمية والإقليمية وظلت تقدم لهم الدعم المالي والمعنوي في كل أنحاء العالم..”. وهكذا يفتح مصدرنا بابا جديدا للسر وراء الجريمة ما يستدعي إعادة التقصي.
-٢-
علاقتي بخوجلي بدأت في يوم ممطر حاصرنا باتحاد الفنانين. ولكنه كعادته كان قد خفف عنا غلواء صاقعة ضربت السقف، وكان الساتر هو حليفنا، بينما الراحل محمدية يتمتم بتعويذات تجانية. ولكن خوجلي حول تلك المحنة إلى ملهاة بظرفه، ونكاته، وحتى بعد انتهاء الصاعقة كان يقلد هديرها بين الفينة والأخرى حتى صمت المطر، وانسربت زخاته، وخرجنا من غرفة البروفات للجو العليل. ولما كنت التقيه بين فواصل حفلاته أدير معه حوارا عاجلا لأحظى بسبق عن تعاوناته المستمرة مع ود الحاوي، ولا يشئ عند كل لقيا إلا أن يحذرني من المكر الصاعق المصاحب لمطر الليل.
ومرة كان التجاذب اللذيذ..بين أن أبقى مستمعا له بقاعة الصداقة وكانت وصلته مع محمد الأمين في المسرح الداخلي وبين أن اتركه لألحق بمصطفى سيد احمد في المسرح الخارجي في ذات ليلة شهدت نهاية عام. في الاستراحة حاورته وأسر لي أن مكاني في المسرح الداخلي حتى يسمعني “كتير بتتناسا أيدي”، رائعة تاج السر عباس والتي دائما ما أقول له إنها الوردة التي تختفي في بستان غنائه. ولحق بالأوركسترا وتركني فأتاني صوت مصطفى المنبعث من المسرح الخارجي وقد أبحر في كلمات “يا ضلتا”، رائعة يحيي فضل الله. وهكذا بقيت متسمرا في البهو لتلتقط أذني شيئا من رخامة صوت مصطفى وهو يصعد، ويهبط، بينما كان خوجلي بصوته القوي يردد:
ويوم بالصدفه نتقابل ويبادرك من عيوني سؤال..
تعملي إنتي زي ناسيه ويداعب خاطري حسن الفأل..
تمد إيديها يارب لي تفوت تنساني لا.. لا محال..
تهمس ليك كلام الريد غناوي تفرِّح الأطفال..
“اسمعنا مرة” كانت الأغنية الاولى التي أخرجته من تأثره بالفنان عثمان الشفيع. إذ جمعتهما على درب الفن. فعبد اللطيف بغير أنه صانع النجوم بألحانه الأسطورية وجد في خوجلي فرصة للخروج من جلباب إبراهيم عوض وفنانين كثر تعاون معهم. التقط نبرات خوجلي الطروبة عند حديثه حتى ففصل له أعمالاً وضعت زيدان وعركي في المحك.
فالشاب الوسيم الذي جاء بعدهما كان يتمدد خصما عليهما، وعلى آخرين، وأناقته الزائدة جعلته نجما لا يكبو. وحينذاك كان هو، وزيدان، وعبد العزيز المبارك، ومصطفى يتناوبون في التنافس الشريف. وعند كل عام كان خوجلي يسرع خطاه فتراه يقطف من زهرات شعراء كبار أمثال حسن الزبير. ويجيد الإبداع بعزفه المتقن للعود حين يدندن بذكريات ود القرشي، ويرسم لعالمه الفني ألحانا مميزة حتى إن تغافل زيدان خطف شيئا من ألحان عمر الشاعر؛
خلو الملامة علي
يوم الاحبة جراح زاد الأسى الفيني
وشال من منامي الراح.
يقول الصحفي حيدر محمد علي إن خوجلي عثمان خوجلي ولد في مدينة سوبا بالخرطوم عام 1949 في أُسرة بحراوية عريقة. فوالده من شمبات وأمه من منطقة أبو قرون بشرق النيل. وانتقلت أسرته إلي حلفاية الملوك عام 1950م وعمره ستة أشهر. درس الأولية بحلفاية الملوك والوسطى والثانوي ببحري. عمل بمعامل كلية الطب البيطري جامعة الخرطوم بشمبات الزراعة منذالعام 1960. عرف بموهبته وصوته الجميل في تلاوة القرآن الكريم وترديده للأناشيد المدرسية منذ وقت مبكر. وكان محل اهتمام معلميه وزملائه منذالمرحلة الأولية، وكان معروفا بتلحينه للقصائد. بدأ حياته الفنية في عام 1960. وأُجيز صوته رسمياً داخل استديوهات الإذاعة السودانية ، أثناء مهرجان الثقافة الأول 1971..”.
-٣-
لم يأت اغتيال خوجلي بدعا في تلك الأوان فقد تزامن مع حوادث تطرف، وعنف، روعت أمان أمدرمان. ويرصد الصحافي حسن ساتي أحداث تلك الأيام فيقول: “أول أوجه الخلل ينبع من هذا النزوع الواضح للعنف وتعاطيه في الخلافات السياسية والدينية بدرجة يمكن معها القطع بأن حادث خوجلي لن يكون الأخير اعتمادا على السوابق، والذاكرة السودانية تستدعي مع حقبة الإنقاذ الحالية أكثر من حادث سواء لجماعة التكفير والهجرة أو لشرائح سياسية أخرى لجأت إلى البندقية في تصفية خلافاتها واختارت الخرطوم العاصمة مسرحاً..”.
ويضيف ساتي “أبرز الأحداث من سجل جماعة التكفير والهجرة اغتيال الفنان خوجلي عثمان بمقر نقابة الفنانين بأم درمان ثم الاعتداء على المصلين بجامع أنصار السنة بالثورة إحدى ضواحي أم درمان ثم حادث أمدرمان الأول بمسجد الجرافة الذي أوقع عشرين شهيداً و52 جريحاً، وهناك وعلى صعيد الممارسات السياسية الصدامات المسلحة بين أنصار دكتور الترابي والشرطة بالخرطوم في اكتوبر الماضي، ومعه اعتداء جماعة من جيش الأمة على د. عمر نور الدائم بمنزله في مدينة الرياض بالخرطوم في نفس الشهر).
ولذلك، فحادث مسجد الجرافة يدفع بأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات المطلوبة لها، وبين الأسئلة، على من تقع مسؤولية هذا الانسلاخ لجماعة دينية عن تيار السلوك والتدين العام في السودان..”
الناقد سليمان عبد الجليل يقول: “غادرنا خوجلي وحلت فينا أغنياته، أغنياته الخاصة وأغنيات أساتذته وزملائه التي كان يعشقها ويرددها.. ذهب جسده بأيدي اللوثة فبكاه الناس، لكنهم وضعوه روحاً عظيمة بين طبقات الغناء السوداني الحديث، وبوّبوه صوتاً لا يُحدّ على شواهد الملوك في حلفايتهم المبدعة، وشيّد محبوه له هرماً بين جوانحهم العاشقة، و”يا روحي هاجري وفتشي”، لن تجدي غير صنوك خوجلي، بصوته الدافئ، ببدلته الزرقاء، يغنّي تلك الذائعة بين الناس “بدلتو الكحلية، بدلتو الكحلية، ومن فراق تومي فراقو قاسي عليا”، ثم يغلقون قوسهم ويفتحون أيديهم يقرأون الفاتحة..”
إن إعادة فتح ملف القضية ضرورة تنبع لإعادة الاعتبار للفن الذي ما تزال جهات متطرفة تحرض ضده. وكذلك لرد الاعتبار لفنان كبير ذهبت روحه لبارئها نتيجة – إما – للأجواء الانغلاقية التي صاحبت تلك الفترة، أو نتيجة لإخفاء بعض معالم جريمة اغتيال الرئيس حسني مبارك التي هندسها قائد كتائب الظل الشرير علي عثمان محمد طه. ونأمل من اتحاد الفنانين أن يضطلع بمهمة نبش القضية خصوصا أن تلك الفترة الكالحة من تاريخنا شهدت عداء مستحكما ضد المثقفين عموما. وقد دفع الفنانون ثمنا باهظا إذ تكاثف اعتقالهم، وجلدوا عبر المحاكم، وسعى موتورون لتمزيق بعض التسجيلات الغنائية في الإذاعة، والتلفزيون. وكذلك حلت فرقة الإذاعة التي امتازت بخبرة نصف قرن، وذلك لصالح ما سميت الأغنية الجهادية. إن جريمة خوجلي يتحملها كل أركان النظام البائد، وينبغي أن يجدوا الجزاء بدلا من هذا النعيق الذي عادوا لترديده الآن.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.