آخر الأخبار
The news is by your side.

تجربة في القيادة “تحت التمرين”  … بقلم: التجاني عبد القادر حامد

تجربة في القيادة “تحت التمرين”  … بقلم: التجاني عبد القادر حامد

كنت أتعرض من حين لآخر (في تدريسي للعلوم السياسية) لموضوع “القيادة”، فأقول لطلابي (بعد الفراغ من التعريف النظري) إن قيادة الجماعات والدول لا تكتسب بالتأمل النظري وحده، وإنما تتأتى من خلال التجربة والتذوق، ومن بعد القيام والسقوط في رحلة الحياة. عندما أخذت أتأمل في رحلتي وفى تجربتي الخاصة قفزت الى ذهني “رحلة” لا تنسى قمت بها في مدينة لندن لأول الثمانينات من القرن الماضي. لم أكن وقتها قد أكملت الا دروسا قليلة في تعلم قيادة السيارات، ولم أتدرب تدريبا كافيا (ولذلك فقد ألصقت في الركن الخلفي للسيارة حرف “ايل”، التزاما بقانون الحركة). كما كنت من ناحية أخرى نزيلا جديدا في المدينة، لم أتعرف بعد على معالمها الأساسية، اللهم الا محطتين أو ثلاثة من محطات مترو الأنفاق، فضلا عن أن أعرف شوارعها الملتوية ونظام الحركة فيها. ومع ذلك أدرت سيارتي “المينى” في مساء يوم من أيام الآحاد (بصحبة زوجتي وطفلتي) وانطلقت أتجول في مرح ساذج، ظنا منى أن الشوارع ستكون خالية من المارة في عطلة نهاية الأسبوع!
يا لها من مغامرة، ويا لها من سياحة؛ يأخذك طريق فرعى الى طريق مسدود، ثم تعود أدراجك بحثا عن طريق أكبر، وحينما تجده لا يقودك الا الى دائرة كبرى تتقاطع فيها الطرق. لم أستطع التوقف كما لم أعرف في أي اتجاه أسير. واستمرت عملية “اللف والدوران” ساعات طويلة شعرت بثقلها وبردها في عظامي، ولم أعد الى المنزل الا بعد العشاء الأخيرة، وقد تقطعت أوصالي تعبا. كان الجو لطيفا، وكان منظر الحمام المتطاير في منطقة “الطرف الأغر” خلابا، ولكن كيف يستمتع بالجمال من كان قلبه يدق، وحلقه يجف من شدة الخوف؟ لقد تساوى في نظري الحمام والصقور، وتداخل الصيف والشتاء، غير أنى حمدت الله على السلامة، اذ لم تدهسني شاحنة، ولم ترنى شرطية المرور، ولم ينفد الوقود.
ولكن رب ضارة نافعة، كما يقال في الأمثال التبريرية، إذ أنى قد اكتسبت في تلك الرحلة ثقة وعلما، ولم أشعر منذئذ بحاجة الى تمارين جديدة في القيادة. وأهم من هذا فقد تعلمت ثلاث قواعد ذهبية ظللت أتمسك بها في كثير من الأحيان: الأولى، إذا كنت تتخوف من قيادة السيارات (أو الجماعات) فلا تدع ذلك يتحول الى عقدة نفسية، ولكن ينبغي في الوقت نفسه الا تخجل من أن تضع لافتة خلف سيارتك تشير فيها الى أنك “سائق تحت التمرين”، فهذه المعلومة ضرورية لأنها ستجعل الآخرين يحتاطون لأنفسهم، ويتخذون الإجراءات اللازمة. القاعدة الثانية: أن تصطحب معك في كل الأحوال جهازا محملا بخريطة واضحة للطرق (فان مجرد جلوسك على مقعد القيادة لا يجعل منك قائدا)، وأن تملأ خزان الوقود (فان السيارة إن نفد وقودها ستتوقف رغم انفك)، وألا تصطحب معك امرأة أو طفلا (فالنساء والأبناء زينة الحياة الدنيا بلا ريب، ولكن وجودهم الى جانبك وأنت تقود السيارة (أو الحزب أو الدولة) قد يجعلك تسير في الطريق الخطأ، ولعل أكثر مشاكل القيادة تأتى من هذه الناحية، كما لاحظ ذلك أفلاطون قديما. والقاعدة الثالثة: ألا تفترض أبدا أن الطرق ستخلو لك من المارة (أو المعارضين)، إذ لو كانت الطرقات خالية تماما من الناس لما كان هناك داع لقوانين الحركة ولتعلم القيادة. بل لعل خير طريقة للتعلم هي أن تسير في الطرق المأهولة، وأن يراك الآخرون تخطئ، وأن يسخروا من جهلك في بعض الأحيان، فالسخرية قد تحرك في دواخلك قدرات مجهولة، وتجعل منك قائدا ماهرا. ولكن إياك أن تتوهم أنك “تمتلك” الطريق، واياك أن تصمم، في لحظة من لحظات الغضب، أن تلقن من يتخطاك في الطريق درسا، فان مثل هذه المحاولة الرعناء قد تنتهي بك في مخافر الشرطة، أو في مستشفى العظام، أو في مقابر البكري! ولا قوة الا بالله.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.